وقد اتبعناكم فانتهينا إلى هذا المصير الأليم؟!
أم لعلهم وقد رأوا العذاب يهمون بتأنيب المستكبرين على قيادتهم لهم هذه القيادة , وتعريضهم إياهم للعذاب؟
إن السياق يحكي قولهم وعليه طابع الذلة على كل حال!
ويرد الذين استكبروا على ذلك السؤال:
(قالوا: لو هدانا الله لهديناكم! سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص!). .
وهو رد يبدو فيه البرم والضيق:
(لو هدانا الله لهديناكم). .
فعلام تلوموننا ونحن وإياكم في طريق واحد إلى مصير واحد؟ إننا لم نهتد ونضللكم.
ولو هدانا الله لقدناكم إلى الهدى معنا , كما قدناكم حين ضللنا إلى الضلال!
وهم ينسبون هداهم وضلالهم إلى الله. فيعترفون الساعة بقدرته وكانوا من قبل ينكرونه وينكرونها ,
ويستطيلون على الضعفاء استطالة من لا يحسب حسابا لقدرة القاهر الجبار.
وهم إنما يتهربون من تبعة الضلال والإضلال برجع الأمر لله. .
والله لا يأمر بالضلال كما قال سبحانه: إن الله لا يأمر بالفحشاء. .
ثم هم يؤنبون الضعفاء من طرف خفي , فيعلنونهم بأن لاجدوى من الجزع كما أنه لا فائدة من الصبر.
فقد حق العذاب , ولا راد له من صبر أو جزع ,
وفات الأوان الذي كان الجزع فيه من العذاب يجدي فيرد الضالين إلى الهدى ;
وكان الصبر فيه على الشدة يجدي فتدركهم رحمة الله. لقد انتهى كل شيء , ولم يعد هنالك مفر ولا محيص:
(سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص)!
لقد قضي الأمر , وانتهى الجدل , وسكت الحوار. . وهنا نرى على المسرح عجبا ونرى الشيطان. .
هاتف الغواية , وحادي الغواة. . نراه الساعة يلبس مسوح الكهان , أو مسوح الشيطان!
ويتشيطن على الضعفاء والمستكبرين سواء , بكلام ربما كان أقسى عليهم من العذاب:
(وقال الشيطان - لما قضي الأمر - إن الله وعدكم وعد الحق , ووعدتكم فأخلفتكم. وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي. فلا تلوموني ولوموا أنفسكم. ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي. إني كفرت بما أشركتمون من قبل. إن الظالمين لهم عذاب أليم.)
الله! الله!
أما إن الشيطان حقا لشيطان!
وإن شخصيته لتبدو هنا على أتمها كما بدت شخصية الضعفاء وشخصية المستكبرين في هذا الحوار. .
إنه الشيطان الذي وسوس في الصدور , وأغرى بالعصيان , وزين الكفر , وصدهم عن استماع الدعوة. .
هو هو الذي يقول لهم وهو يطعنهم طعنة أليمة نافذة ,
حيث لا يملكون أن يردوها عليه - وقد قضي الأمر - هو الذي يقول الآن , وبعد فوات الأوان:
(إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم)!
ثم يخزهم وخزة أخرى بتعييرهم بالاستجابة له , وليس له عليهم من سلطان ,
سوى أنهم تخلوا عن شخصياتهم , ونسوا ما بينهم وبين الشيطان من عداء قديم ,
فاستجابوا لدعوته الباطلة وتركوا دعوة الحق من الله:
(وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي)!
ثم يؤنبهم , ويدعوهم لتأنيب أنفسهم. يؤنبهم على أن أطاعوه!:
(فلا تلوموني ولوموا أنفسكم)!
ثم يخلي بهم , وينفض يده منهم , وهو الذي وعدهم من قبل ومناهم ,
ووسوس لهم أن لا غالب لهم ; فأما الساعة فما هو بملبيهم إذا صرخوا , كما أنهم لن ينجدوه إذا صرخ:
(ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي). .
وما بيننا من صلة ولا ولاء!
ثم يبرأ من إشراكهم به ويكفر بهذا الإشراك:
(إني كفرت بما أشركتمون من قبل)!
ثم ينهي خطبته الشيطانية بالقاصمة يصبها على أوليائه:
(إن الظالمين لهم عذاب أليم)!
فيا للشيطان!
ويا لهم من وليهم الذي هتف بهم إلى الغواية فأطاعوه , ودعاهم الرسل إلى الله فكذبوهم وجحدوه!
وقبل أن يسدل الستار نبصر على الضفة الأخرى بتلك الأمة المؤمنة , الأمة الفائزة , الأمة الناجية:
(وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار , خالدين فيها بإذن ربهم , تحيتهم فيها سلام). .