الشرط الخامس: أن يكون لدى الباحث وضوح في القضايا التي يريد أن يستنطق بخصوصها القرآنَ المجيد في علاقته بالهيمنة، إذ حين اتضاح هذه القضايا فإنها تكون بمثابة التضاريس الفكرية والنفسية والوجدانية التي من شأنها أن تمكّن الدارس من التقاط ما يتعلق بالمواضيع المبحوث فيها من إشارات؛ وإلا فسوف تغلب على البحث العموميةُ والسطحية.

فالإنسان الذي قد اشتغل في التربية مثلا ووقف على بعض إشكالاتها وأدرك الأمور التي تقتضي الحل، ووقف على حيثيات التربية، يكون أكثر استعدادا لتلقي الإشارات والآيات الموجودة في القرآن المجيد بخصوص هذه المسألة. أما إذا دخل خالي الذهن فإنّه سوف يتخطّف ويُجتال بقضايا كثيرة ومتعددة، ولن يكون الاستنطاق للقرآن المجيد بخصوص الهيمنة في مضمار التربية كما هو مرجو؛ بمعنى أنّ بناء هذه التضاريس التي سوف تلتقط الآيات المتعلقة بالقضية المدروسة لابد منه بين يدي الدخول إلى عالم القرآن الرحيب لبحثها.

الشرط السادس: وهو مسألة النماذج المعرفية، أو الأنساق القياسية، أو الأطر المرجعية التي ينطلق منها الباحث؛ فإن كانت مُغلَقة فاته الكثير، بخلاف الأمر إنْ دخل وهو مُطَّرِحٌ بين يدي كتاب الله عز وجل، مستعد لأنْ يتجاوز ما في ذهنه من الأطر المرجعية والأنساق القياسية والنماذج المعرفية وأبنية أخرى جديدة بحيث -وهو يبحث- تكون هناك هيمنة ذاتية .. مع ضرورة استدامة الانفتاح والحفاظ على الوعي التّام بأنّه إنسان محدود وبأن هذه المحدودية تقتضي التكملة.

الشرط السابع الذي لابد منه أثناء بحث قضية الهيمنة في القرآن المجيد، هو أن تكون مستحضرا في كل لحظة كونكَ إنساناً تنتمي إلى الأسرة الآدمية الممتدة عبر الزمان والمكان وأنك تشكل معها وحدة وتعيش معها تحديات مشتركة لابد من العمل المتظافر لرفعها، مما يجعل منك كائنا كونيا يتبنّى هموم العالمين في كافة امتداداتهم، وهذا تنتج عنه حالة من المشاركة الوجدانية تساعد على تَلقِّي إشارات القرآن الكريم بخصوص الهيمنة، إشارات لا سبيل إلى تلقيها في غياب هذا الشرط النفسي والوجداني.

وهذا الشرط يعدّ -في اعتباري- بمثابة الإطار العام المحدّد للوجهات التي سوف ينطلق فيها الباحث حين يكون منفتحا على هموم العالمين، ويكون عنده كل الافتقار وكل الإدراك اللذين مضت إليهما الإشارة.

فإذا تدبرت -على سبيل المثال- مفهوم الطلاق وكيف تمّ التصديق والهيمنة بخصوصه في القرآن على ما سلف، ثم نظرت في سياقات دينية وحضارية حُظر فيها الطلاق سوف تتجلى أمامك الهيمنة على هذه المفاهيم المستقرة، وسوف تكتشف كيف أنّ القرآن المجيد قد قوّى هذا الرباط المبارك المتصل بصناعة الحياة؛ رباط التزويج، بفتحه لإمكان مفارقة الرفيق متى ما أصبحت الحياة المشتركة متعذرة لسبب أو لآخر، درءا لدواعي اللجوء إلى ما لا يحل، وهو لجوء عادة ما تفضي إليه التدينات التي لا تتيح هذه المكنة باليسر وكذا الاحتراز الموجودين في شرعة الإسلام، وهذا مما يؤهل الباحث لأن يكون أقرب نفعا للعالمين من خلال إفاضة وتعدية هدى كتاب الناس إلى الناس.

منطق الظاهر الحضاري

مسألة أخرى بهذا الخصوص تتجلى إن نحن انتقلنا بالبحث إلى الجوانب الفكرية وإلى الأفكار السائدة التي هي بمثابة البراديغمات المسيطرة المنتجة لما يسمى بـ"النسق المفاهيمي المؤطر" لحضارة معينة، سوف نتبيّن من مدخل استحضار هذا الإدراك أن المنطق العام المهيمن على الحضارة الراهنة منطق يدور في فلك ما أسماه الله تعالى: ?ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا? في قوله سبحانه: ?يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ? (الروم:7)؛ أي إنّ النسق المفاهيمي التصوري في هذه الحضارة منحسر ومنحبس في هذا الإطار الذي هو ظاهر الحياة الدنيا أي الحجب الثلاثة حجاب الدنيا والمادة، وحجاب النفس، ثم حجاب الخلق. فإذا تم الدخول إلى القرآن المجيد في استحضار لهذا الإشكال الكبير الموجود في هذه الحضارة (الانحسار في ظاهر من الحياة الدنيا)، سوف تبرز مجموعة من المعطيات الجديدة المهيمنة والمخلِّصة، كالميزان والمعاد والجزاء القائم على الحساب، والسعي إلى الرضوان، والتجانف عن الغضب والإبعاد، والتنعم بالنعيم، والفرار من الجحيم، مما يعتبر هيمنة محررة من سجن هذا الاعتقاد المحجّم لأبعاد الحياة وأبعاد الإنسان.

وإذا انضاف إلى هذا استحضارُ الانتماء إلى الأسرة الآدمية الممتدة في انتشارها الزماني والمكاني، والاعتقاد بوجوب تبنّي همومها لما يقارفه من الأجر والرضوان، سوف يستطيع الباحث أن يرى أوجه الهيمنة في القرآن الكريم على هذا الضرب المنحسر من التفكير، ومن ثم سوف يتمكن من تجاوزه في ذاته ثم في الآخرين من خلال إبرازه لهم، وكما قال ابن خلدون: "في حلَّة قوية البنيان ومتينة الأركان" بحيث تتقبّله العقول ويكون رحمة للعالمين.

فهذه سبعة شروط متصلة بقضية التصديق والهيمنة وآليات عملهما في القرآن الكريم أردتُ الإسهام بها من أجل استئناف فتح ملف هذه القضية التي أعتقد أنها لم تُعط حقّها كما يلزم ضمن الأبحاث المنتمية إلى دائرة معارف الوحي.

ـــــــــــــــ

الهوامش

(1) في مجالات التيسير تدبّرا: ?كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ? (ص:29)، وفي مجالات التسخير تفكّرا: ?وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَاْلأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ? (آل عمران:191).

(2) إذ الأمم دائما تتأرجح بين قطبين؛ قطب الرهبنة -أو الخروج من العالم- وقطب التكاثر والاستكثار -أو الغرق في العالم-.

(3) كما فصّله المصريون القدامى عمليا من خلال اتخاذ ربّ للحرب، وربّ للمحبة، ورب للحياة وآخر للممات وكأنّ هناك تخصّصات في الإشراف والرعاية.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015