المفهوم البارز الواضح المستوعب الكبير والشامل، مفهوم "ربّ العالمين" الذي يستقطب هذه الأبعاد كلّها ولكن بطريقة بنائية وتدريجية، حتى يصل بالإنسان إلى حيث يريد أن يوصله منزّل القرآن المجيد ?أَحْسَن الْحَدِيثِ? (الزمر:23)، ?أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ? (الزمر:55).

إن البحث في مسألة الهيمنة في القرآن يُفضي بنا إلى آفاق في غاية السعة والجمال، وقد قمنا الآن بالبحث في كلمة واحدة ومصطلح واحد: "الربّ"، ورأينا كيف أن القضية اتسعت إلى أن وصلت إلى مفهوم سام هو "ربّ العالمين"، لكي ينفسح المجال بعد ذلك إلى "الرحمن الرحيم"، انسيابا نحو المصور، الباري، والقدوس إلى غير ذلك من الأسماء الحسنى والتي كلها تُلقي إضاءات على مفهوم "الربّ".

وبالتتبع سوف نجد أنّ كل البنائية التي في القرآن المجيد سوف تُنسج حول هذا المفهوم بسعته ومداه الجديدين كما برزا في أمّ القرآن ثم في سائره، لكي تُمنح الأمة قِبلتها وتُمنح وِجهاتها المتعددة التي تُفضي بها هذه القبلة بطريقة متجددة وغير متناهية.

منهجية التصديق

وجبت الإشارة هنا إلى أنّ ثمة خمسة شروط لابد من مراعاتها في أفق إعمال أوفق لمنهجية التصديق والهيمنة واستكشافٍ أدقَّ لمعالمها:

الشرط الأول الأساس هو شرط اعتقاديّ بامتياز؛ اعتقادي بحيث يعتقد الباحث اعتقادا جازما أنّ القرآن المجيد كلام الله عز وجل ?لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ? (فصلت:42)، ?مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ? (الأنعام:38)، ?تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ? (النحل:89)، فتتوفر عنده ضمن هذا الشرط مجموعة من المنطلقات التي تُلزمه بالجدّية القصوى وهو يبحث في القرآن المجيد، وتُلزمه بأن يحشد كل طاقاته وكل نباهته، وأنْ يتوفّز كل توفّز قبل أن يدخل إلى عالم القرآن المجيد، فيكون توفّزه أكبر من توفّز الباحث الذي يدخل إلى مختبره، ومن توفّز الطبيب الذي يدخل إلى عملية جراحية مما من شأنه أن يجعل نتائج البحث أبرك إن شاء الله.

الشرط الثاني: إنْ أردنا أنْ نبحث في قضية الهيمنة بطريقة تأسيسية، وجب أن ننظر في القرآن المجيد باعتباره بناء، وأن لا يتم إغفال هذه البنائية أوالذهول عنها، إذ هما إغفال وذهول مُدخِلان في اللوم الموجّه إلى ?الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ? (الحجر:91)؛ وإسقاط في التعضية والتفريق والتمزيع في القرآن المجيد وفي عدم الدخول إليه باعتباره بناءً متماسكا، ترتيلا ?وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً? (الفرقان:32) ?وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً? (المزمل:4) أي اعتبر أيها المتعامل مع القرآن المجيد هذه البنائية ولا تُهمل منه كلمةً ولا حرفا.

وهنا أريد الإشارة إلى نموذج مفاهيمي معرفي قد تسرب إلى عقول بعض علمائنا فأصبحوا بمقتضاه ينظرون إلى القرآن باعتبار أن آياته التي تحتها عمل لا تتجاوز الخمسمائة آية على أكثر تقدير، ويسمّونها آيات الأحكام، من مجموع عدد آياته الستِّ وثلاثين ومائتين وست آلاف (6236)، فأين ذهبت الآيات الأخر؟ وما هي تجلياتُ ربانية مصدرها؟ وما هو الهدى الموجود فيها؟

مقابل هذا المنظور التي يستبطن -بدون وعي- الكثير من الانتقاء ومن الإقصاء المسبق، نجد أنّ كل حرف من القرآن المجيد فيه هدى وفيه رشاد وفيه نور، ولعل هذا من الحكم الكامنة وراء وجود الحروف المقطعة في فواتح بعض السور. وبالتالي فحين نؤمن ونسلّم بأنّ القرآن بناء، سوف نراجع وننقد مناهجنا القائمة في أفق المواءمة المنهجية مع هذه البنائية المباركة.

الشرط الثالث: وهو فرع عن الثاني، ومفاده وجوب تتبع المصطلحات قيد الدراسة في كل مواطن ورودها، واعتبار السياقات التي يتم فيها هذا الورود قبل أي تعريف لهذه المصطلحات.

الشرط الرابع: ضبط الضمائم، فإذا تم الذهول عن حقيقة أنّ الكلمة في القرآن المجيد تكون لها ضمائم كما تكون لها نظائر تلقي عليها أضواء إضافية، وإنْ لم يتم النظر في كل هذه المرافقات والمحتوشات التي تُحيط بالكلمة المصطلح فإن الباحث وإن اعتبر السياق ونظر في كل الشروط التي سلفت قد يفوّت الشيء الكثير.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015