التي تقع من الناحية المفاهيمية والانكسارات المعرفية التي تحصل تحت تأثيرات اجتماعية أنثروبولوجية وأخرى تاريخية.
كما نجد أن الهيمنة في القرآن المجيد تتجلى من خلال فتح المفهوم، وفتح المعتقد بطريقة تجعلهما مستمرين شاملين مستوعبين لكل عصر ولكل مصر؛ فتلتقي الهيمنة بهذا المعنى مع خصيصة الشمول والاستيعاب في القرآن الكريم.
الكلمة المفتاح
وفيما يلي سوف نرصد منهجية عمل آلية الهيمنة في القرآن الكريم باعتبارها من مكونات منهجه النقدي من خلال كلمة مفتاح هي كلمة "الربّ".
إن القرآن عبارة عن ترتيل، وهو الترتيل الذي يشبه بيت الرُتيلاء التي تنضُد وتنسّق وتُحسّن البناء بطريقة تقوم على التفاضي والاتصال المطلق بين كل مكوناته ( Web)؛ بحيث يكون المتعامل مع القرآن المجيد وفق هذا النموذج من المقاربة، حالاّ مرتحلا في كل حين منتقلا بين أرجاء القرآن المجيد كما قال عليه الصلاة والسلام: "أحب العمل إلى الله تعالى الحالّ المرتحل"، قال: وما الحالّ المرتحل؟ قال: "الذي يضرب من أول القرآن إلى آخره، كلما حلَّ، ارتحل" (رواه الترمذي والدارمي). وهذا المفهوم هو الذي ركّز عليه المفسرون حين قالوا: "ويفسر بعضه بعضا"، ذلك أن أول تفسير للقرآن المجيد هو عين تفسيره لذاته.
حين نأخذ كلمة "الرب" في القرآن الكريم سوف نجد أنها تنفتح على أبعاد كثيرة. فالقرآن قد نزل على العرب وهم يستعملون كلمة "الرب" إزّاء هبل واللات والعُزّى، وقد عدّ العادّون حوالي ستين وثلاثمائة صنما حول الكعبة. وكلمة "الرب" كانت تنسحب على هذه الآلهة بشكل "أتوماتيكي"، وإذا كانت كلمة "الرب" مشتقّة من ربَّ يَرُبُّ، أي باشَر يُباشر، وأَشرف على المصالح يُشرف، واعتنى يعتني إلى غير ذلك من المعاني (3)، فإننا نجد أنّ مفهوم الربوبية يَبرز في القرآن المجيد باعتباره أيضا من الأمور التي تقوم بدور اللّحمة والسدى في مجتمع معين وإن بباطل، فرعون مثلا حين يقول: ?أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى? (النازعات:24) يبرز باعتباره يمثل لُحمة المجتمع من خلال توحيده لهذه الأمة من الناس، ولكن بشكل ضال بفعل هذه الربوبية المدعاة، ?وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى? (طه:79)، وهو مثال قد أعمل فيه القرآن المجيد آلية الهيمنة في اتصال بمفهوم الربّ لتوسعته وتجاوز واقعه في الأذهان نحو ما هو عليه حقيقته، أي نحو التوحيد، فبعد ادعاء فرعون أنه رب المصريين الأعلى ?أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى? (النازعات:24)، نجده ينتقل بفعل اللقاء المستأنف مع موسى عليه السلام إلى السؤال عن رب العالمين ?قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ? (الشعراء:23) فيجاب: ?رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ? (الشعراء:24)، لكي يختم مساره الجحودي بالاعتراف -ولات حين مناص- بما قرره نبي الله موسى عن الربوبية حين قال وهو يغرق: ?آمَنْتُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ? (يونس:90)، كل ذلك يتم في إطار من الهيمنة المتصاعدة، ليصل في أمِّ القرآن سورة الفاتحة، إلى هذا المفهوم العظيم الذي هو ?رَبّ الْعَالَمِينَ?، لدرجة أنّ هذا الذي يبرز -وإن في سياق الضلال- باعتباره توحيداً ولُحمة وسَدى في هذه المجتمعات، نَجده لا يُفقد بل نجده يصحّح ويُنّمى إلى درجة يُصبح معها مفهوم الربوبية "ربّ العالمين" قابلا لاستيعاب الكائنات كلها والأمم كلها، والشعوب كلّها، ويدخل في منظومة قرآنية بامتياز، هي منظومة التعارف: ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ? (الحجرات:13). ولكن قبل أن يصل القرآن المجيد بهؤلاء -وبالعالمين من خلالهم- إلى هذه الدرجة وإلى هذا المستوى نرى سيرورة تجاوز الأرباب الزائفة المرصوصة حول الكعبة بالردّ إلى رب هذه الكعبة والذي هو صاحب المنن والنعم على أم القرى وما حولها من خلال قوله تعالى: ?فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ? (قريش:3 - 4)، ثم يكون الاستيعاب تدريجيا بحيث نجد التصديق والهيمنة بعد أن تمّا في هذه الاتجاهات كلها يتناميان عبر الآيات لكي يوصلانا إلى هذا
¥