ففي القرآن نجد كلمة "أحسن" في قوله تعالى: ?اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ? (الزمر:23)، وفي قوله سبحانه: ?وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ? (الزمر:55)؛ تدلّ على أن هذا الوحي قد أذن منزله بارتقائه إلى مرحلة أصبح فيها الوحي الأحسن والأمثل والأكمل. وهذا هو الذي يبرز مثلا من خلال تسمية كتاب نبي الله موسى وأخيه هارون عليهما السلام ?الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ? في قوله تعالى: ?وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ? (الصافآت:117)، في حين أن القرآن المجيد سمي كتابا مبينا ?قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ? (المائدة:15)، أي إنه قد وصل إلى درجة الإبانة المطلقة.

وفي السنة نجد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، يُشبّه النبوة كلها بالبناء المكتمل أيضا في قوله عليه الصلاة والسلام: "إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون له، ويقولون: هلاّ وُضعت هذه اللبنة؟ قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين" (رواه البخاري).

وجهتا التصديق والهيمنة

إن آلية التصديق والهيمنة في القرآن المجيد لها وجهتان:

الوجهة الأولى إزاء الكتب السالفة؛ فهناك تصديق لما صحّ من هذه الكتب ثم هيمنة عليها في تكامل تامّ معها. والوجهة الثانية إزاء ما يمور ويعتلج في حياة الناس وارتفاقاتهم من ممارسات وما هو مستقر فيها من أعراف. والتصديق في هذه الوجهة عبارة عن إقرار الصالح من كل ذلك بالسكوت عنه أو الثناء عليه، وتغيير الطالح بالحديث عنه وكشف مساوئه.

وتتم الهيمنة في القرآن الكريم في اتجاهات متعددة، وهي اتجاهات كلها تجاوزية غير إستاتيكية. وهي تجاوزية تتجلى من خلال التوسعة مع الاحتفاظ على كل القوة التي تستبطنها الحقائق الموسّعة، ويجري ذلك بطريقة متنامية، إذ بعد كل مرحلة من مراحل الهيمنة، يبنى على الحقائق الجديدة لكي تتم الهيمنة بها بدورها على مفاهيم وحقائق مستقرة أخرى وتتم توسعتها، لكي تشمل أبعادا أخرى لم تكن تشملها في مرحلة الخصوصية؛ لأن الوحي في المراحل السابقة عن نزول القرآن المجيد كانت له خصوصيته، إذ كان يُبعث الرسول النبي من أجل هداية الخلق وإرشادهم إلى الصواب ضمن السياقات التي يوجد فيها ووفق توازنات معينة. فعيسى عليه السلام -على سبيل المثال- يأتي في وقت قد غرقت فيه أمة بني إسرائيل وانغمست في العالم. (2) فجاء بهذه الدفقة الروحانية من أجل انتزاع وانتشال أمته وجذبها الشديد لتخليصها من هذا الانغماس، وقد كان أفق دعوته وهدايته عليه السلام متسقا مع أزوف زمن بعثة نبي الختم صلى الله عليه وسلم، وظل هذا الأفق مفتوحا كما يتجلى ذلك في قوله تعالى: ?وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ? (الصف:6). إذ هو صلى الله عليه وسلم الرسول الذي سوف يُحدث التوازن المنشود. فنحن بصدد تخطيط وتصميم رباني يقوم على التكامل في الأدوار بين الأنبياء: الجذب من لدن عيسى عليه السلام كان قويا جدا في انتظار رسول يأتي من بعده اسمه أحمد ليُحدث التوازن المطلوب. فبينما كانت اليهود لا تسجد لتكون صلاتها -تبعا لذلك- جلّها وقوفا، جاء عيسى عليه السلام فنقلهم إلى السجود لتكتمل مظاهر العبادة مع مجيء الرسول المبشّر به أحمد، صلى الله عليه وعلى آله وسلم الذي سيضيف الركوع إلى كل ذلك تصديقا وهيمنة.

إن تجاوز التأرجح بين هذين القطبين (قطب الرهبنة، وقطب التكاثر) يندرج ضمن مفهوم التوسعة الذي تتجلى من خلاله الهيمنة، وهو تجاوز يستكمل أبعاده ويتم، بإضافة مفهوم الميزان ?وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ? (الرحمن:7 - 9)، وهو مفهوم نقف على سريانه في كل مفردات الأداء الحضاري الإسلامي من خلال تأطير وتوجيه رائعين بالآيات والأحاديث المتكاملة. تتم الهيمنة أيضا من خلال "الضبط التأويلي" بتحديد أصوله وقواعده، وتبيان موقع النص والعقل ودور الإنسان ومسؤولية العالم؛ حيث يقوم القرآن المجيد من خلال هذا الضبط بتنقية ما اعترى العقل الجماعي المسلم بسبب تسرب بعض ما كان في الأمم السابقة بفعل التداخلات

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015