وقد ورد في تفسير الكشاف للزمخشري بان معنى تدبر القرآن أي تأمل معانيه وتبصر فيه (لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) بمعنى لكان الكثير منه مختلفا متناقضا، وقد تفاوت نظمه، وبلاغته، ومعانيه، وكان بعضه بالغا حدالإعجاز وبعضه قاصرا عنه، يمكن معارضته .. ، فلما تجاوب كله بلاغة معجزة فائتة لقوى البلغاء، وتناصر صحة معان وصحة أخبار علم انه ليس إلا من عند قادر على ما لا يقدر عليه غيره (2)

ويقول صاحب الظلال رحمه الله ""يعرض عليهم الأحتكام في أمر القرآن إلى إدراكهم هم وتدبر عقولهم ويعين لهم منهج النظر الصحيح، كما يعين فهم الظاهرة التي لا تخطئ إذا اتبعها ذلك المنهج: التناسق المطلق الشامل الكامل هو الظاهرة التي لا يخطئها من يتدبر القرآن .. ،

إن كل واحد يستطيع عند التدبر، وفق منهج مستقيم أن يدرك أن من هده الظاهرة ظاهرة عدم الاختلاف أو ظاهرة التناسق، ما تهيئ له قدرته وثقافته وتجربته وتقواه، بإدراكها في حدودها الخاصة.

تتجلى ظاهرة التناسق ابتداء في التعبير القرآني من ناحية الأداء وطرائقه الفنية فيما يخص التعبير اللفظي والأداء الأسلوبي، فهناك مستوى واحد في هذا الكتاب المعجز، تختلف ألوانه باختلاف الموضوعات التي يتناولها ولكن يتخذ مستواه وأفقه والكمال والأداء بلا تغير ولا اختلاف من مستوى إلى مستوى، انه يحمل طابع الصنعة الإلهية ويدل على الصانع، يدل على الموجود الذي لا يتغير من حال إلى حال ...

كما تتجلى في المنهج الذي تحمله العبارات ويؤدي به الأداء منهج التربية للنفس البشرية والمجتمعات البشرية، منهج التنظيم للنشاط الإنساني ومنهج التقويم للإدراك البشري ذاته، وتناول شتى قواه وطاقاته، والتنسيق بين الكائن الإنساني وبين الكون الذي يعيش فيه، وبين دنياه وآخرته وما يشجر من علاقة بينهما ومن ملابسات في عالم كل فرد، وفي عالم كل إنسان وهو يعيش في هذا الكون.

يحمل الطابع البشري رؤية النظر الجزئية والتأثر الوقتي بالملابسات الوقتية وعدم رؤيته المتناقضات.

في النظرية أو المذهب أو الخطة التي تؤدي إلى الاصطدام بين مكوناتها إن عاجلا أو آجلا .. إلى عشرات النقائص الناتجة عن محدودية الإدراك البشري. ومن الجهل البشري بما وراء اللحظة الحاضرة فوق جهله بكل مكونات اللحظة الحاضرة ... أما المنهج القرآني فهو الشامل المتكامل الثابت الأصول، ثبات النمواميس الكونية، الذي يسمح بالحركة الدائمة مع ثباته. كما تسمح النمواميس الكونية (3).

أما ما يختلف الناس في إدراكه فيتمثل في آماد وآفاق وأبعاد ذلك التناسق العجيب.

ومن دروس التدبير في آي الذكر الحكيم ما يتعلق بصلاح العقيدة والاعتقاد. لان قدسية العقيدة مصدرها حكمة الوجود العليا.

فالإنسان يتجه إلى الدين من أجل تقرير مكانه في هذا الكون او في هذه الحياة وبالتالي فيتعلق من الدين بمعنى الحياة ...

وإذا طلب الحياة الأبدية فلأنه يريد لحياته معنى، وهو لا يطلب ذلك، لأنه فرد من أفراد النوع، فإن النوع قد يبقى ألوف السنين، إلا أن كل ذلك لا يغنيه عن طلب الحياة الأبدية، لأنه يريد لحياته معنى، لا يزول، ويريد أن يتصل بحياة الكون كلهفي أوسع مداه.

وقد يعلم الإنسان أسرارا من الكون وهو يشعرانه غريب عنه أو عارض فيه فإذا اعتقد فإنما يعتقد لأنه يريد أن يشعر بأنه ليس في الكون بالغريب، ويؤمن انه موصول الحياة بحياته. وليس بالعارض فيه.

وحسب العقيدة الصالحة من الصلاح أنها تنهض بالعقل والفريضة، ولا تصدهما عن سبيل العلم والصناعة، ولا تحول بين معتقديها، وبين التقدم في الحضارة، وأطوار الاجتماع. (4).

ويرى أستاذنا العقاد رحمه الله بأن موضوع الفلسفة القرآنية هو صلاح العقيدة الإسلامية لحياة الجماعة البشرية، وان الجماعات التي تدين بها تستمد منها حاجتها إلى الدين الذي لا غنى عنه، ثم لا تفوتها منها حاجتها إلى العلم والحضارة ولا استبعادها لمجارات الزمن حيث اتجه مجراه (5).

"ويبدو إلى الذهن أن الشمول الذي امتازت به العقيدة الإسلامية صفة خفية عميقة لا تظهر للناظر من قريب، ولابد لإظهارها من بحث عويص في قواعد الدين وأسرار الكتاب وفرائض المعاملات.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015