وثمة أمثلة أخرى كثيرة يسارع فيها الدكتور شوقى إلى إعلان شكه فى هذه القصيدة أو تلك دون أن تكون التسويغات التى يسوقها مُرْضِيةً للعقل، ولكنى أكتفى بهذين المثلين دليلا على أنه، ككثير من الباحثين العرب، قد امتلأ قلبه بهاجس النحل والانتحال أكثر مما يصح رغم أنه قد رد هجوم مرجليوث وطه حسين وبلاشير على الشعر الجاهلى وبيّن ما فى ذلك الهجوم من مغالاة لا تستقيم ومنطق الأشياء (السابق/ 166 - 175).

خلاصة القول إن فى الشعر الجاهلى شعرًا صحيحًا، وهو الأغلبية الكبيرة، وفيه إلى جانب هذا شعر منحول أيضا، إلا أن المنحول ليس بالكثرة ولا الاتساع الذى توحى به عادةً كتاباتُ من كتبوا فى ذلك الموضوع. كذلك ينبغى ألا ندلف إلى قراءة الشعر الجاهلى ونحن ممتلئون امتلاءً بهواجس الشك فيه، بل نقرؤه ونحن هادئو الأعصاب، ومتيقظون أيضا، وعلى أساس ألا تزر وازرة وزر أخرى، بمعنى أنه إذا بدا لنا بوضوح أن ثم شيئا مريبا فى النص وقفنا إزاءه وقلبنا فيه النظر ووضعناه على محك التمحيص، وإلا فهو شعر صحيح.

ولقد مررت بتلك التجربة عدة مرات، وأبرزها المرة التى درست فيها شعر عنترة، إذ ألفيت أن بعض طبعات ديوانه تحتوى على لونين من الشعر: شعر تبدو عليه بكل وضوح سيما الشعر الجاهلى، وشعر لا يمكن أن يكون منتميا إلى ما قبل الإسلام. وهو ما حفزنى إلى دراسة الأمر بعمق، فتبين لى أن اللون الأخير ليس لعنترة، بل هو مما أضافه كتاب سيرته الشعبية توسيعا لقصته وتضخيما لشخصيته وأمجاده، وأن ثمة سمات فارقة بين الشعرين لا يمكن أن تخطئها عين الخبير رغم وقوع بعض كبار الدارسين، ومنهم أسماء طنانة، فى شبكة الانخداع والتسليم ودراستهم تلك الأشعار المزيفة دراسة المطئن إلى صحة نسبتها إلى عنترة. وقد استخرجت تلك السمات وخصصت لها فصلا كاملا فى دراستى المذكورة. أريد أن أقول إننى قد دخلت ساحة البحث فى شعر عنترة وأنا برىء الصدر، فلما شعرت بأن هناك ما يريب استربت. ثم لم أكتف بالاسترابة، بل شفعتها بالتدقيق والتحقيق حتى وصلت إلى ما شفى نفسى وأراح قلبى.

نخلص من هذا كله إلى أن فى الشعر الجاهلى أشعارا منحولة، وهذا أمر طبيعى، فالتزييف جانب أساسى من جوانب الحياة البشرية لا فَكَاك منه: يستوى فى هذا الشعر الجاهلى والشعر غير الجاهلى والنثر وغير النثر والفلوس والعقود والصكوك والشهادات والكلام اليومى العادى والكلام الرسمى ونشرات الأخبار والبيانات العسكرية والتقارير السياسية والإحصاءات الاقتصادية، وهلم جرا. ثم لا ننس أن الطبيعة الشفوية التى كان يلجأ إليها الرواة لحفظ ذلك الشعر فى الأغلب الأعم قد ساعدت على النسيان والخلط رغم ما نعرفه عن قوة الذاكرة العربية فى المجتمع الجاهلى حيث كانت الكتابة والقراءة غير منتشرة آنذاك. ولكن علينا فى ذات الوقت، إن وجدنا أكثر من رواية للنص الشعرى الواحد، ألا نظن ذلك ناتجا بالضرورة عن النسيان أو السهو من قِبَل الرواة، إذ من المحتمل جدا أن تكون هذه نسخة أخرى من القصيدة سببها مراجعة الشاعر للنسخة الأولى بعد إعادته النظر فيها فقدَّم وأخَّر وغيَّر وحوَّر وحذف وأضاف. أما الأسباب المتعددة التى اتكأ عليها وأبرزها ابن سلام فقد رأينا أنها تفتقر بقوة إلى الدليل.

وفى الفقرات التالية ما يرينا كيف أن النحل أو الخلط أو التزييف أو الشك ليس مقصورا على شعر العصر الجاهلى ولا على الشعر وحده: جاء فى "الأغانى" مثلا عن مجنون بنى عامر: "أخبرني حبيب بن نصر المهلبي وأحمد بن عبد العزيز الجوهري عن ابن شبة عن الحزامي، قال: حدثني أيوب بن عباية، قال: سألت بني عامرٍ بطنا بطنا عن مجنون بني عامر فما وجدت أحدا يعرفه. وأخبرني عمي قال حدثنا أحمد بن الحارث عن المدائني عن ابن دأبٍ قال: قلت لرجل من بني عامر: أتعرف المجنون وتروي من شعره شيئا؟ قال: أوَقد فرغنا من شعر العقلاء حتى نروي أشعار المجانين! إنهم لكثيرٌ! فقلت: ليس هؤلاء أعني، إنما أعني مجنون بني عامر الشاعر الذي قتله العشق. فقال: هيهات! بنو عامر أغلظ أكبادا من ذاك. إنما يكون هذا في هذه اليمانية الضعاف قلوبها، السخيفة عقولها، الصعلة رؤوسها. فأما نزار فلا.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015