ذلك العالم قائلا: "تلك هى النتائج التى انتهى إليها ابن سلام الجُمَحِىّ والأسباب التى ساقها لبيان منشإ الانتحال والتزييف والزيادة فى الشعر الجاهلى. وهى هى عينها النتائج والأسباب التى أوردها الدكتور طه حسين فى كتابه: "فى الشعر الجاهلى" ... "، ذلك الكتاب الذى يقول بدوى إنه قد قوبل عند ظهوره "بالدهشة الحمقاء" لعدم اطلاع المعارضين على ما كتبه أمثال ابن سلام من العلماء القدماء فى هذا المجال اطلاعَ فهمٍ دقيقٍ متبصّر حسب تعبيره، وكذلك ما كتبه المستشرقون فى ذات الموضوع (انظر كتابه: "دراسات المستشرقين حول صحة الشعر الجاهلى/ ط2/ دار العلم للملايين/ بيروت/ 1986م/ 5 - 13).

بل إن أحد العلماء المعتدلين كالدكتور شوقى ضيف لم ينج من إلحاح هاجس الشك فى الشعر الجاهلى الذى زرعه ابن سلام فى النفوس رغم تصديه، رحمه الله، لمن يريدون نسف ذلك الشعر أو إثارة الشك المبير فيه (انظر كتابه: "العصر الجاهلى"/ 164 - 175)، فقد رأيناه يقف عند هذه القصيدة أو تلك من قصائد هذا الشاعر الجاهلى أو ذاك مبديا شكه فى صحتها بناء على أسباب ليست مقنعة بالمرة. ولسوف آخذ مثالين اثنين فقط مما كتبه، رحمه الله، فى هذا الموضوع: فمثلا نراه يشك شكا شديدا فى قصيدة النابغة الذبيانى: "بانت سعاد وأمسى حبلها انجذما" لأنها، كما يقول، "نسيب خالص ولأن بها روحا إسلامية تتصح فى قوله مخاطبا صاحبته:

حيّاكِ ربى، فإنا لا يحلّ لنا * لهو النساء، وإن الدين قد عَزَما

مشمِّرين على خُوصٍ مزنَّمةٍ * نرجو الإله، ونرجو البر والطَّعَما

رغم أنها من رواية الأصمعى كما ذكر هو نفسه (العصر الجاهلى/ 278). ولست أشاطر الأستاذ الدكتور شكه فى القصيدة، فإن مجيئها نسيبا خالصا لا يُعَدّ مسوِّغا لرفض نسبتها إلى الشاعر ضربة لازب، وإلا فهل عنده دليل على أن النابغة لا يمكن أن يقول شعرا خالصا فى النسيب؟ كما أن البيتين اللذين يصفهما بأنهما ذوا روح إسلامية لا يتّسمان فى حقيقة الأمر بشىء إسلامى حَصْرًا، إذ الكلام فيهما عن الإله والدين بعامة، وهو كلام يصدق على كثير من الأديان. وحتى لو كانا إسلاميين حقا وصدقا، فإن ذلك ليس بالسبب الكافى لرفض القصيدة كلها، بل لرفض البيتين فحسب. ومع ذلك فإنه هو نفسه لم يردّ بيتين لزهير بن أبى سلمى يؤمن فيهما باليوم الآخر والحساب ويؤكد معرفة الله تعالى بغيب النفوس واطلاعه المطلق على كل شىء (المرجع السابق/ 303)، فهذا من هذا. ولا ننس أن النابغة كان يتردد على بلاط الحيرة والغساسنة، وكان ملوكهما نصارى. بل إن فى شعره، كما نعرف، كلاما عن بعض الأعياد والاحتفالات النصرانية.

وبالمثل نجد الأستاذ الدكتور ينكر صحة قصيدة الأعشى الدالية التى تقول كتب الأدب إنه كان قد أعدها لمدح الرسول عليه السلام قبل أن تلقاه قريش وتصده عن الذهاب إليه وإعلان الإيمان به، والتى تتضمن بعض التعاليم الإسلامية والعبارات القرآنية، بحجة أنها "لا تتفق فى شىء ونفسية الأعشى"، وأنه لا يمكن أن "يؤمن بتعاليم القرآن على هذا النحو ثم ينصرف عن الرسول وهديه" حسب تعبيره (السابق/ 342). يشير الأستاذ الدكتور إلى ما تحكيه كتب الأدب من أن الأعشى أعد العُدّة للوفادة على النبى عليه السلام وهو لا يزال فى مكة وجهّز فى مدحه قصيدة يقولها عند لقائه، إلا أن قريشا ما إن علمت بهذا الذى كان ينتويه حتى سارعت بمقابلته وعملت على تنفيره من الدين الجديد وصاحبه، فرجع من طريقه دون أن يفد عليه صلى الله عليه وسلم، ثم تتابعت الحوادث حتى مات ولم يدخل فى الإسلام.

لكنْ من قال إن الأعشى كان فى خاطره الانصراف عن الرسول انصرافا نهائيا؟ ربما انصاع لكلام القرشيين ريثما تتاح له فرصة أخرى، أو ربما ضَعُفَ أمام ما أعطَوْه من مال فأخذه وانصرف مؤقتا انتظارا لظروف أفضل يستطيع أن يعلن فيها إسلامه دون خوف من ضغط أو إحراج. والناس ليسوا سواء فى قوة التمسك بما يؤمنون به، ولا كُلّهم على استعداد للبذل والتضحية العنيفة، ولا من طبيعتهم جميعا المسارعة إلى تنفيذ ما ينوون عمله. وعندى أن تفسير موقف الأعشى بذلك أقوى فى الإقناع من إنكار نسبة القصيدة له والقول بأنها منحولة.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015