و"شرح ما وقع فى أشعار السِّيَر من الغريب".

هذا، ولم أتكلم عن الأشعار المنسوبة إلى شعراء حميريين جاهليين والتى أوردها ابن إسحاق فى سيرة النبى ولم يعترض عليها ابن هشام أدنى اعتراض، وهى موجودة لمن يبتغيها فى أول كتابه عن "السيرة النبوية". بل إن ابن هشام ليعلق موافقا على شرح ابن إسحاق لبعض العبارات الحميرية التى تختلف فى طريقة نطقها عن طريقة أهل الشمال كقول أحد أولئك الشعراء فى أبيات له أوردها ابن إسحاق: "لباب لباب"، الذى شرحه ذلك العالم الجليل بأن معناه: "لا بأس لا بأس".

كذلك يُحْكَى أن أحد ملوك اليمن كان جالسا فوق شَرَفٍ من الأرض عالٍ، وأمامه رجل من عرب الشمال قائما، فقال له: "ثِبْ"، فما كان منه إلا أن رمى بنفسه من فوق المرتفع فتحطم. وقد صنع ذلك ظنا منه أن الملك يأمره بالقفز إلى الأرض، على حين قَصَد الملك أن يقعد. جاء فى "إصلاح المنطق" لابن السكيت ما يلى: "قال الأصمعي: ودخل رجل من العرب على ملك من ملوك حمير، فقال له: ثِبْ (و"ثِبْ" بالحميرية: اقعد)، فوثب الرجل فتكسر. فقال الحميري: ليس عندنا عربيتكم. من دخل ظفار حَمَّر. قال الأصمعي: حَمَّر: تكلم بكلام حمير". وجاء فى كتاب "الروض المعطار فى خبر الأقطار" لابن عبد المنعم الحِمْيَرى: "ومن كلام بعض ملوكهم: مَن دخل ظفار حَمَّر. وسبب ذلك أن ذا جَدَن الحِمْيَري خرج يطوف في أحياء العرب فنزل في بني تميم، فضُرِب له فسطاط، فجاءه زرارة بن عدس مصعدا إليه، وكان على قارَة مرتفعة، فقال له الملك: ثب، أي "اقعد" بلغته. فقال زرارة: ليعلمن الملك أني سامع مطيع. فوثب إلى الأرض فتقطع أعضاءً، فقال الملك: ما شأنه؟ فقيل له: أَبَيْتَ اللعن، إن "الوثب" بلغته "القفز". فقال: ليست عربيتنا كعربيتكم، من دخل ظفار فلْيُحَمِّّْر. أي فليتكلم بلغة حِمْيَر".

ومن هذه الرواية يتبين أن الملك الحميرى كان يتكلم العربية مَثَلُه مَثَلُ الرجل الذى ألقى بنفسه من فوق المرتفَع، وإن كانت هناك بعض الفروق اللهجية التى لم تمنعهما من التفاهم طوال الوقت، اللهم إلا حين قضى المقدور أن يَلْقَى ذلك الرجل حتفه فاستخدم الملك لفظا له معنى فى الحميرية يختلف عن معناه عند عرب الشمال. لكن هذا الأمر موجود داخل عربية العدنانيين نفسها فيما يُعْرَف بـ"ألفاظ الأضداد"، مثل "جَوْن" (أبيض/ أسود)، و"مأتم" (اجتماع الأفراح/ اجتماع التعازى)، و"قُرْء" (فترة الحيض الشهرية/ فترة الطُّهْر الفاصلة بين الحيضتين)، و"أَوْرَقَ" (قَلَّ ماله/ كَثُرَ ماله)، و"شام السيفَ" (أغمده/ سَلَّه)، و"أَكْرَى الشىءُ" (زاد/ نقص)، و"أَسَرَّ الخبرَ" (كتمه/ أعلنه) ...

ولدينا كتاب نشوان الحميرى (من أهل القرن الثامن الهجرى): "خلاصة السِّيَر الجامعة"، الذى ينطق فيه كلّ أهل اليمن قبل الإسلام شعرا ونثرا بالعربية التى نعرفها. أفلو كان الأمر من الناحية اللغوية على ما يقول ابن سلام أكان نشوان يجهل هذه الحقيقة على هذا النحو المخزى؟ لقد كان نشوان قاضيا وعلامة فى اللغة والأدب وصاحب معجم مشهور ومتميز، وكان يتعصب لقومه ويفاخر بهم العدنانيين، فليس هو إذن مظنة التساهل فى تلك المسألة. بل لقد كتب كتابه هذا شرحا لقصيدة كان قد نظمها تخليدا لذكرى ملوك اليمن القدامى وبعثا لمفاخرهم. وأنا، حين أقول هذا، لا أقصد أن النصوص اليمنية الجاهلية التى أوردها نشوان فى كتابه صحيحة بالضرورة، بل أريد إلى التساؤل بأنه لو لم يكن يمنيو الجاهلية يستخدمون، على نحوٍ أو على آخَرَ، اللغة العربية التى نعرفها فكيف أنطقهم بالعربية؟

وفى كتاب "الإكليل" للهمدانى نصوص حميرية، والملاحظ أنها تتفق والعربية، اللهم إلا فى بعض المفردات التى قد ينظر إليها الناظر، فى بعض الحالات على الأقل، على أنها مظهر من مظاهر الترادف كالترادف بين "الأصابع" (عربية شمالية نزل بها القرآن) و"الشناتر" (عربية حميرية)، وبين "الصديق" (عربية شمالية نزل بها القرآن) و"الخِلْم" (عربية حميرية) على ما جاء فى كتاب "الصاحبى" لابن فارس. جاء فى كتاب "الإكليل": "قال اللبخي: قال الحميري في كلام الحميرية، وذكر خبر الأنواء: "أقسمن أنجوم أربع، ذو تغيب لو يرى سد بتع، ما بين حاز وبيت دفع". "ذو" بمعنى "لا"، و"لو" بمعنى حتى. ذكره الحسن في التاسع من "الإكليل". أي أقسمت الكواكب الأربعة، وهي الصواب،

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015