ثم نتابع القراءة فنجد عالمنا يقول: "وقال أبو عمرو بن العلاء في ذلك: ما لسان حِمْيَر وأقاصى اليمن اليوم بلساننا ولا عربيتهم بعربيتنا. فكيف بما علي عهد عاد وثمود مع تداعيه ووهيه؟ فلو كان الشعر مثل ما وُضِع لابن إسحاق ومثل ما روى الصحفيون ما كانت إليه حاجة ولا فيه دليل على علم". ولا أدرى ما علاقة اختلاف عربية حمير وأقاصى اليمن عن عربية الشمال برفضه شعر عاد وثمود. إن عادا وثمود شىء، وحِمْيَر وأقاصى اليمن شىء آخر كما هو واضح. ومن الممكن أن تكون عربية حمير وأقاصى اليمن مختلفة عن عربية الشمال فى عصر أبى عمر بن العلاء دون أن تكون عربية عاد وثمود مختلفة عنها. إن لأهل النوبة مثلا لغة خاصة بهم، وليست مجرد لهجة مختلفة من لهجات اللغة العربية، لكن هذا لا يعنى أبدا أن العربية التى يستخدمها الكتاب النوبيون فى مؤلفاتهم الآن هى عربية أخرى غير العربية التى نعرفها.
ثم فليقل أبو عمرو بن العلاء ما يريد، فهل يصح أن نأخذ بكلامه ونتجاهل حقائق التاريخ التى تقول إن عرب الشمال لم يكونوا يجدون أى عنت فى التفاهم مع أى شخص أو جماعة من عرب الجنوب فى أى وقت من الأوقات حتى فى الجاهلية. ولقد كان الرسول يرسل أصحابه إلى اليمن وحضرموت سفراء ومبعوثين، كما كان عليه السلام يستقبل فى المدينة كثيرا من أهل تلك البلاد، فضلا عن اتخاذ بعضهم منها مُقَامًا لهم، ولم نسمع قط مع هذا أنه كانت هناك أية صعوبة فى تفاهم الفريقين، اللهم إلا إذ كانت هناك جيوب لغوية تتحدث فى حياتها اليومية بلهجة متميزة على نحو ماعن لهجات عرب الشمال، قليلا كان هذ التميز أو كثيرا، مع اصطناعهم فى إبداعهم الشعرى اللغة الفصحى كما هو الحال فى شعر عمرو بن معديكرب الزبيدى، وهو حميرى، وكذلك الجُعْفِيّة امرأته. ذلك أن كل ما تعيه الذاكرة من الفرق بين نطق اليمنيين ونطق الشماليين هو الحديث الذى رُوِىَ عن النبى يخاطب أهل اليمن بلهجتهم حين قال: "ليس من امْبِرِّ امْصِيَامُ فى امْسَفَر"، أى "ليس من البر الصيام فى السفر" وقول أبى هريرة لعثمان حين دخل عليه وهو محصور فى داره: "طابَ امْضَرْب"، أى "طابَ الضَّرْب" بإبدال "اللام" فى "أل" التعريفية "ميما"، ويُطْلَق على هذه الطريقة: "الطمطمانية"، وإن كان د. جواد على (فى الفصل السابع والثلاثين بعد المائة من كتابه: "المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام" تحت عنوان "لغات العرب") يشكك فى صحة ذلك الحديث، مؤكدا أن الحميرية إنما تعرّف بإلحاق "ألف ونون" فى آخر الكلمة، وأنها تختلف اختلافا شديدا عن لغة الشمال حسبما ترينا النقوش. ولكننا، حين نطّلع بعد قليل على ما كتبه العلماء القحطانيون فى هذا الصدد، وكانوا قريبى عهد بتلك اللغة، وبعضهم كتب ما كتب اعتمادا على نقوش حميرية أيضا، خليقون بأن نتروى فى الأمر ونقول إن هناك شيئا غاب عن المستشرقين الذين جمعوا تلك النقوش ومن يجرى مجراهم.
إن د. جواد على ينكر ما يقال من أن عرب الشمال لم يجدوا أية صعوبة فى التفاهم مع عرب الجنوب على أيام النبى عليه السلام: لا فى المدينة ولا فى بلاد اليمن ذاتها. ورأيه هو أن هذا ما نفهمه نحن من النصوص، أما النصوص ذاتها فلم تقل شيئا من ذلك صراحة. لكن ماذا نفعل فيما روته كتب السيرة والتاريخ من أن وفود أهل اليمن كانت تخطب وتشعر بهذه العربية التى نعرفها؟ قد يقال إن كتّاب السيرة والتاريخ العرب قد ترجموا ما قاله أهل اليمن ولم يأتوا به على وجهه الأصلى. لكن هذا، إن قُبِل فى الخُطَب، وهو أمر أشك فيه، إذ من الغريب تماما أن يُجْمِع دون أدنى داعٍ أولئك العلماء على الصمت التام فى هذه القضية فلا يقول أحدهم ولو على سبيل الخطإ إنه كان هناك من يترجم بين الفريقين أو إن التفاهم بينهم كان يتسم بالبطء والصعوبة ويعتريه الخطأ كثيرا، فإنه لا يمكن أن يُقْبَل فى الأشعار كما هو الحال فيما ألقاه منها بين يدى النبى فروةُ بن مسيك المرادى (الذى استعمله النبى على صدقات مراد وزيد ومذحج) وعمرو بن معديكرب (من وفد زبيد) ومالك بن نمط (من وفد همدان). وهذه الأشعار لم يشكك فيها ابن هشام (اليمنى الأصل)، وهو الذى لا يترك شاردة ولا واردة إلا وغلَّب فيها الشك على الطمأنينة. وبالمناسبة فمن بين كتبه التى لا تخفى دلالتها فى سياقنا الحاضر "التيجان فى ملوك حمير" و"القصائد الحميرية"
¥