لا تغيب صلاة الغداة حتى يشرب سد بتع من الغيث بآذار، هذا على حد العادة. وفي مسند بصنعاء على بعض الحجارة التي نقلت من قصور حمير وهمدان: "علهان ونهفان، ابنا بتع بن همدان، لهم الملك قديما كان". وخبرني أحمد بن أبي الأغر الشهابي من كندة قال: قرأت في مسند بناعط: "علهان ونهفان، ابنا بتع بن همدان، لهم الملك قديما كان". وحدثني محمد بن أحمد الأوساني أنه قرأ في مسند بعمران من البون دار همدان: "علهن ونهفن، ابنا بتع بن همدان صحح حصن وقصر حدقان بن زيد يبن بنينا". كذلك يكتبون بحذف الألف إذا وقعت في وسط الحروف، وقَفَاهم المسلمون في كتابة المصاحف فطرحوا ألف "الرحمن" وألف "الإنسن" وألف "السموات". وكذلك "علهن" منقوص من "علهان"، و"نهفن" منقوص من "نهفان"، و"همدن" من "همدان"، و"بنين" من "بنيان". هذا ما تؤديه أحرف الكتاب، وإياها حكى الأوساني، فأما اللفظ فعلى التمام. وكذلك يحذفون الواو الساكنة من وسط الحروف مثل مبعوث، والياء الساكنة مثل شمليل، والألف الساكنة في مثل هلال وبلال وأميال". ومن كلام أبى هريرة (الصحابى الجليل اليمنى الأصل) حين سمع كلمة "السكين" أول مرة: "والله إنْ سمعت بالسكين قبل ذلك اليوم، وما كنت أقول إلا المدية". وعلق العلماء على ذلك بأنها لم تكن من لغة قومه.

ثم يستأنف ابن سلام الحديث فى هذا الموضوع بعد شىء غير قليل من الاستطراد فيقول: "جاء الإسلام فتشاغلت عنه العرب وتشاغلوا بالجهاد وغزو فارس والروم، ولَهَتْ عن الشعر وروايته. فلما كثر الإسلام وجاءت الفتوح واطمأنت العرب بالأمصار راجعوا رواية الشعر فلم يَؤُولُوا إلى ديوانٍ مدوَّنٍ ولا كتابٍ مكتوبٍ، وأَلْفَوْا ذلك وقد هلك من العرب مَنْ هلك بالموت والقتل، فحفظوا أقل ذلك، وذهب عليهم منه كثير. وقد كان عند النعمان بن المنذر منه ديوان فيه أشعار الفحول وما مُدِح هو وأهل بيته به. صار ذلك إلى بنى مروان أو صار منه. قال يونس بن حبيب: قال أبو عمرو بن العلاء: ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله. ولو جاءكم وافرا لجاءكم علم وشعر كثير".

وسوف أقف قليلا لدى قول ابن سلام إن الإسلام حين جاء تشاغلت به العرب عن رواية الشعر. وهذا غير صحيح بتاتا، إذ لم يستمر العرب آنذاك فى رواية الشعر الجاهلى فحسب، بل ظلوا ينظمون الشعر بغزارة لم ينقطعوا عنه يوما. ومن يراجع أشعار المخضرمين والإسلاميين وشعراء الفتوح يجد شعرا كثيرا، وكثيرا جدا جدا جدا، حتى إن الشعراء فى هذين العصرين ليُعَدُّون بالمئات، وهو ما يُبْطِل دعوى ابن سلام من قواعدها، غفر الله له. ثم إنه يتحدث عن إهمال العرب لرواية الشعر ثم عن رجوعهم إليها بعد أن فرغوا من فورة الفتوح الأولى وكأن الشعر كان موجودا آنذاك فى أوعية أهملها العرب بعض الوقت، ثم لما تذكروه وجدوه فى الأوعية التى تركوه فيها. وفضلا عن هذا كيف يا ترى عرف العرب أنهم قد نَسُوا منها القدار الأكبر؟ إن هذا يتطلب أن يكون لديهم فى ذلك الوقت الأصل الكامل الذى يمكنهم القياس عليه فيعرفون ماذا كان موجودا وماذا بقى بعد ذلك. وهذا أمر لا يمكن أن يكون بطييعة الحال.

وإذا كان الرسول ذاته يستنشد أصحابه الشعر ويستمتع بالإنصات إليه، ويثيب مَنْ حوله من الشعراء ويشجعهم على المنافحة عن الإسلام بإبداعاتهم الشعرية، فما بالنا بغير الرسول؟ نقرأ مثلا فى "أخبار أبى القاسم الزجّاجى" للزجّاجى نفسه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مُدِحَ وأجاز على الشعر لأنه أجاز كعب بن زهير بالبُرْدة التي عند الخلفاء اليوم فباعها بعشرين ألف درهم. ومدحه العباس بن عبد المطلب والعباس بن مرداس وحسان بن ثابت. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لحسّان: "أَجِبْ قريشًا عن شعرهم، وروح القدس معك". وأكثر الصحابة قد قالوا الشعر. أخبرنا الأخفش عن المبرد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للنابغة الجعدي: أَنْشِدْني، فأنشده:

ولا خير في حِلْمٍ إذا لم يكن له * بوادرُ تحمي صفوه أن يكدَّرا

ولا خير في جهلٍ إذا لم يكن له * حليمٌ إذا ما أُوتِيَ الأمر أصدرا

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015