وفي مثله يقول الشاعر:
نَجَا بِكَ لُؤْمك مَنْجَى الذبابِ ... حَمَتْهُ مقاذيرُه أن يُنالا
وشتم رجل الأحنف، وجعل يتبعه حتى بلغ حيَّه، فقال الأحنف: يا هذا إن كان بقي في نفسك شيء فهاته, وانْصَرِفْ؛ لا يَسْمَعْكَ بعض سفهائنا, فَتَلْقَى ماتكره.
وقيل للشعبي: فلان يتنقصك ويشتمك , فتمثل الشعبي بقول كُثَيِّر:
هنيئاً مريئاً غير داء مخامر ... لعزة من أعراضنا ما اسْتَحَلَّتِ
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة ... لدينا ولا مقلية إنْ تَقَلَّتِ
وأسمع رجل ابن هبيرة فأعرض عنه، فقال: إياك أعني، فقال له: وعنك أعرض.
4_ أن يستحضر أن مجاراة السفهاء شر وبلاء، فهناك من إذا ابتلي بسفيه ساقط، لا خلاق له، ولا مروءة فيه _ أخذ يجاريه في سفهه وقيله وقاله، مما يجعله عرضة لسماع مالا يرضيه من ساقط القول ومرذوله، فيصبح بذلك مساوياً للسفيه؛ إذ نزل إليه، وانحط إلى رتبته.
إذا جاريت ذا خلق دنيئاً ... فأنت ومن تجاريه سواء
قال الأحنف بن قيس: "من لم يصبر على كلمة سمع كلمات، وَرُبَّ غيظٍ تَجَرَّعتُهُ مخافة ما هو أشد منه.
5_ أن يستحضر الإنسان أنه بالإعراض عن الجاهلين يكرم نفسه بذلك، ويكرم قرابة السفيه الأبرياء الأعزاء؛ لأنهم لا ذنب لهم، ولهذا قيل: "لأجل عين تكرم ألف عين".
ويقول زهير:
وذي خَطَلٍ في القول يحسب أنه ... مصيبٌ فما يُلْمِمْ به فهو قائله
عَبَأْتُ له حِلْمي وأكرمت غيره ... وأعرضت عنه وهو بادٍ مقاتله
وقد اختلف الشراح في قوله: "وأكرمتُ غيره" فقال بعضهم: معناه أكرمت نفسي بالإعراض عنه، وقال بعضهم: أكرمت أهله، وأقاربه.
وقد يظن ظان أن الإعراضَ عن الجاهلِ والإغضاءَ عن إساءته مع القدرة عليه_ موجب للذلة، والمهانة، وأنه قد يجر إلى تطاول السفهاء.
وهذا خطأ؛ ذلك أن العفو والحلم لا يشتبه بالذلة بحال؛ فإن الذلة احتمال الأذى على وجه يذهب الكرامة.
أما الحلم فهو إغضاء الرجل عن المكروه، حيث يزيده الإغضاء في أعين الناس رفعة ومكانة.
سياسة الحلم لا بطش يكدرها ... فهو المهيب ولاتخشى بوادره
فالعفو إسقاط حقك جوداً، وكرماً، وإحساناً مع قدرتك على الانتقام، فتؤثر الترك؛ رغبة في الإحسان ومكارم الأخلاق.
بخلاف الذل؛ فإن صاحبه يترك الانتقام عجزاً، وخوفاً، ومهانة نفس؛ فهذا غير محمود، بل لعل المنتقم بالحق أحسن حالاً منه؛ لأن من الناس من بلغت به الرقاعة واللؤم أن يفسر الإكرام والإغضاء بالضعف، وعليه يحمل قول أبي الطيب المتنبي:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ... وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
وقول الشريف الرضي:
في الناس إن فتَّشتهم ... مَنْ لا يُعِزُّك أو تُذِلَّه
فاترك مجاملة اللئيم ... فإن فيها العجزَ كُلَّه
ومعنى قوله: "أو تذله": إلا أن تذله، كما في الشاهد النحوي:
وكنت إذا غمزت قناة قوم ... كسرت كعوبها أو تستقيما
أي: إلا أن تستقيما.
وهذا راجع إلى حكمة الإنسان، وتقديره الأمورَ، وتدبره للعواقب؛ فيعرف متى يأخذ بالحزم، ومتى يأخذ بالحلم.
ـ[عبدالرحمن الشهري]ــــــــ[15 صلى الله عليه وسلمpr 2009, 09:25 ص]ـ
أحسن الله إليك ونفع بعلمك يا أبا إبراهيم على هذه الفوائد.
ـ[محمود الشنقيطي]ــــــــ[15 صلى الله عليه وسلمpr 2009, 10:50 ص]ـ
أحسن الله إليك على هذه اللفتة, والله لهي وقايةٌ من كثير من جرائم القتل والتدابر والكيد والتحاقد , وهي خصلةٌ تحتاجُ إلى رياضةٍ ودُربة لا يلقاها إلا ذو حظ عظيم.
جاء رجلٌ أهوجُ يفيضُ سفَها إلى الأحنف وقال له: لئن قلت واحدةً لتسمعنَّ عشراً , قفال الأحنفُ في حلم يقتاتُ به المقيمُ ويتزودُ المسافر ويتحفُ القادم (ولئن قلت عشراً لن تسمع واحدة).
قال عروة بن الزبير رضي الله عنه:
لن يدرك المجد أقوام وإن كرموا =حتى يذلوا وإن عزوا لأقوام
ويشتموا فترى الألوان مسفرة =لا صفح ذل ولكن صفح إكرام
ـ[منصور مهران]ــــــــ[15 صلى الله عليه وسلمpr 2009, 11:07 ص]ـ
ومما يروونه من شعر الإمام الشافعي قوله:
يُخاطِبُني السَفيهُ بِكُلِّ قُبحٍ = فَأَكرَهُ أَن أَكونَ لَهُ مُجيبا
يَزيدُ سَفاهَةً فَأَزيدُ حِلماً = كَعودٍ زادَهُ الإِحراقُ طيبا