ـ[محمد بن إبراهيم الحمد]ــــــــ[15 صلى الله عليه وسلمpr 2009, 07:41 ص]ـ
[وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ]
في يوم من الأيام كنت في مجلس في الجامعة يضم نخبة من الزملاء من أهل العلم والفضل، ودار الحديث عن كيفية تلقي الإساءة، والتعامل معها إذا صدرت من سفيه لا يَحْسِبُ حِسَابَهُ فيما يقول؛ فتباينت أجوبة الحاضرين؛ فكان أسدُّها _في نظري_ إجابةً أجابها أحدهم بقوله: العلاج يوجد في قوله _تعالى_: [وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ].
فلما انفض ذلك المجلس صرت أتفكر في تلك الآية العظيمة التي تعد بلسماً لكثير من الأدواء التي يُبتلى بها كثير من العقلاء؛ حيث يبتلون بمن لا خلاق لهم من السفهاء الذين يثيرون حولهم الغبار، ويسيؤون إليهم بالكلام البذيء المؤذي.
ويكثر ذلك في بعض الدوائر التي تضم خليطاً من الناس، كما يشيع في مجتمعات الطلاب والمعلمين.
وخير علاج لتلك الإساءات هو الإعراض عن الجاهلين؛ فمن أعرض عنهم حمى عرضه، وأراح نفسه, وسلم من سماع ما يؤذيه.
قال _عز وجل_: [خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ].
فبالإعراض عن الجاهلين يحفظ الرجل على نفسه عزتها, إذ يرفعها عن الطائفة التي تلذ المهاترة والإقذاع، قال بعض الشعراء:
إني لأعرض عن أشياء أسمعها ... حتى يقول رجال إن بي حمقا
أخشى جواب سفيهٍ لا حياء له ... فَسْلٍ وظَنَّ أناسٍ أنه صدقا
وقال أبو العتاهية:
والصمتُ للمرء الحليم وقايةٌ ... ينفي بها عن عِرْضه ما يكره
فَكِلِ السفيه إلى السفاهة وانتصف ... بالحلم أو بالصمت ممن يَسْفهُ
والعرب تقول: "إن من ابتغاء الخير اتقاءَ الشر".
ورُوي أن رجلاً نال من عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- فلم يجبه, فقيل له: ما يمنعك منه؟ .... قال: التقيُّ مُلْجَمٌ.
هذا وإن من أعظم ما يعين على الإعراض عن الجاهلين زيادة على ما مضى ما يلي:
1_ الترفعُ عن السباب؛ فذلك من شرف النفس، وعلو الهمة، كما قالت الحكماء: "شرف النفس أن تحمل المكاره كما تحمل المكارم".
قال الأصمعي: "بلغني أن رجلاً قال لآخر: والله لئن قلت واحدة لتسمعن عشراً.
فقال الآخر: لكنك إن قلت عشراً لم تسمع واحدة".
وشتم رجل الحسن، وأربى عليه، فقال له الحسن: "أما أنت فما أبقيت شيئاً، وما يعلم الله أكثر".
يقول العلامة محمد كرد علي -رحمه الله-: "وإذا لاحظ الهجاؤون أَن هجاءهم مما تنخلع له قلوب المهجوين زادوا وأفرطوا, وإذا أيقنوا أن صاحب النفس العظيمة لا يأبه كثيراً لما يقال فيه يحاذرون صَرْفَ أوقاتهم فيما لا يجدي عليهم.
وقد رأينا العليَّ المنزلة النزيهَ في ذاته لا يعبأ بثرثرة الثرثارين مدحاً كان أم قدحاً, ورأينا هذا الضرب من الأقوال خفَّ الاهتمام به في عهدنا؛ لأن الناس تعلموا, والمتعلم يخجل أَن يُصَفِّقَ للباطل, وأن يهرب من الحق".
2_ استحضار كونِ الإساءة دليلاً على رفعة شأن المُساء إليه، وشرفه؛ فذلك مما يهوِّن ما يلقى من سب وتجريح.
.............................. ... وما زالت الأشراف تهجى وتمدح
وقد جرى في قريض أبي الطيب المتنبي أن من دلائل كمال الرجال رميَ الناقص له بسباب، حين يقول:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني كاملُ
ووجه هذا: أن الوضيع لا تلتفت همته إلى من كان واقفاً في صفه من الأسافل، فتحدثه بأن يَلَغَ في أعراضهم بالمذمة؛ لأنه غني في نشر مثالبهم بما تلبسوا به من الفضائح، حتى إذا ألقى نحوهم بسبة رماها على شفته من غير حرص وشدة اهتمام بالتحدث بها.
وإنما تتوجه همته بمجامعها إلى الرجل الكامل؛ حيث يقصد إنزاله في معتقد الجمهور إلى مَدْرَجَتِه، أو ما هو أسفل منها.
قال الإمام الشافعي-رحمه الله-:
إذا سبني نذل تزايدت رفعةً ... وما العيب إلا أن أكون مساببه
ولو لم تكن نفسي علي عزيزة ... لَمَكَّنْتُها من كل نذل تحاربه
وقال آخر:
ولست مشاتماً أحداً لأني ... رأيت الشتم من عي الرجال
إذا جعل اللئيم أباه نصباً ... لشاتمه فديت أبي بمالي
3_ الاستهانة بالمسيء؛ فذلك من ضروب العزة والأنفة، ومن مستحسن الكبر والإعجاب، ومن ذلك قول بعض الزعماء في شعره:
أو كلما طَنَّ الذبابُ طَرَدْتُه ... إن الذباب إذاً علي كريم
وأَكْثَرَ رجل مِنْ سَبِّ الأحنف وهو لا يجيبه, فقال السَّابُّ: والله ما منع الأحنفَ من جوابي إلا هواني عليه.
¥