* وعلى فرض قبوله فهو لا يدل على الترتيب الاجتهادي فلربما كان سؤال ابن عباس متوجها في الأساس إلى عدم كتابة "بسم الله الرحمن الرحيم" وليس عن وضع سورة التوبة بعد سورة الأنفال إذ لو كان الترتيب اجتهاديا والأمر فيه توسعة فما وجه اعتراض ابن عباس عليه؟ ولِمَ هذا الموضع بالذات؟ وما الفرق حينئذ بين أن يكون وضعها بعد سورة الأنفال أو بعد أي سورة أخرى؟

فإن قيل: الاعتراض على كونها من المثاني ووضعت في المئين

قلنا: فلِمَ لم يعترض مثلا على ترتيب سورة النحل وهي من المئين فآياتها (128 آية) بعد سورة الحجر وآياتها فقط (99 آية) وهو الأمر نفسه في ترتيب سورة طه وهي (135 آية) بعد سورة مريم وهي (98 آية) وغير ذلك وارد أيضا.

* أما القول بأن مصاحف بعض الصحابة كان يخالف ترتيب المصحف الإمام فنحن لا نملك دليلا قويا عليه بل نملك ما يضعفه.

• ولا شك أن مما يضعفه عدم اعتراضهم على ترتيب المصحف الإمام.

• ويضعفه أيضا أنه لم ينقل أنه قد حدثت مشكلة أو مشادة على الترتيب بين المختلفين في زمن عثمان وإنما كان الاختلاف على القراءة.

وإن صح عنهم هذا، فهو محمول على أن مصاحفهم لم تكن مجردة، بل كانوا يضيفون إليها تفسير بعض الكلمات وهو ما نقل عنهم بعد فيما عرف بقراءة تفسير أو قراءة تفسيرية.

** ويضاف إلى هذا أن هنالك الكثير من المشكلات تترتب على القول بالترتيب الاجتهادي كلا أو بعضا ومنها ما يلي:

1 - الله عز وجل يقول: " بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ " فعلى أي ترتيب هو في اللوح المحفوظ هل هو على ترتيب مخالف أم على ترتيب موافق؟

2 - وكذلك الحال يقال فيما أخرجه الحاكم في المستدرك عن ابن عباس رضي الله عنه قال: «أنزل القرآن في ليلة القدر جملة واحدة إلى سماء الدنيا كان بموقع النجوم» فعلى أي ترتيب هو فيها هل هو على ترتيب مخالف أم على ترتيب موافق؟

3 - جبريل عليه السلام حين كان يعارض النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن في كل عام وفي العام الأخير عارضه به مرتين فعلى أي ترتيب كان يعارضه؟ هل على ترتيب مخالف أم على ترتيب موافق؟

4 - هذا الترتيب القائم معنا الآن في المصحف هو الحقيقة الوحيدة الموثوق فيها وهو الذي عليه التواتر فليس لنا أن نتصور أن الأصحاب كانوا على خلافه فإن احتج بأن ترتيبهم ذهب بحرق عثمان لمصاحفهم قلنا: حتى مع هذا فإن كثيرا من الروايات الصحيحة حفظت لنا حروفهم ومصاحفهم والمفسرون يستعينون بها في التفسير فلِمَ لم تحفظ لنا ترتيبهم لو كان هذا موجودا وما ينقل من ذلك في الكتب هو أخبار غير مسندة من جهة ثم هي من جهة أخرى لا تنص إلا على سور قد لا تجاوز اليد الواحدة. وقد يجاب عن هذا أيضا على فرض حدوثه بأن مصاحفهم كانت مصاحف خاصة غير مجردة بل ربما أضافوا إليها شيئا من التفسير بما يجعلها أقرب إلى الكتب العلمية منها إلى المصاحف.

5 - لو أقسم أحد أن يقرأ القرآن مرتب السور فهل يحنث إذا خالف الترتيب القائم محتجا بأنه اجتهادي؟

6 - لو قال أحد لامرأته أنت طالق ما لم تقرئي القرآن مرتبا فهل يقع الطلاق لو خالفته؟

7 - هل لو أجمع الناس في زمان ما على غير هذا الترتيب يسوغ لهم هذا حيث إن الإجماع ينقض بإجماع آخر؟

8 - ما جدوى علم المناسبة بين السور لو كان الترتيب اجتهاديا؟ فالقول بالاجتهاد كلا أو بعضا يسقط هذا العلم بالكلية.

9 - ما الحكمة من ترك السور بلا ترتيب توقيفي من النبي صلى الله عليه وسلم ليوكل الأمر إلى من بعده وهو الحريص كل الحرص على جمع الناس على مائدة القرآن بلا اختلاف؟

10 - أين هي الموازين العقلية في الموالاة بين سور الحواميم والمفارقة بين المسبحات ولِمَ لمْ يرتب اجتهادا على حسب النزول مثلا أو حسب الطول والقصر بميزان دقيق أو حسب المكي والمدني؟ ولِمَ فصل بين سورتي إبراهيم ويوسف بسورة الرعد رغم أن سورة يوسف سبقها ولاء سورتا يونس وهود أيضا ولِمَ لم تنضم إليهم سورة محمد صلى الله عليه وسلم لتكون منظومة سور الأنبياء في محل واحد؟ ولِمَ فرق بين سور "ألم"؟ كل هذه الأسئلة لا يحلها إلا القول بالتوقيف.

11 - أيضا لا معنى لقول العلماء: يسن أن يقرأ على ترتيب المصحف، لأن ترتيبه لحكمة، فلا يتركها إلا فيما ورد الشرع باستثنائه، ينظر كتاب "فتح الكريم المنان في آداب حملة القرآن" للضباع وقال النووي في التبيان:

[فصل] قال العلماء الاختيار أن يقرأ على ترتيب المصحف فيقرأ الفاتحة ثم البقرة ثم آل عمران ثم ما بعدها على الترتيب وسواء قرأ في الصلاة أو في غيرها حتى قال بعض أصحابنا إذا قرأ في الركعة الأولى سورة قل أعوذ برب الناس يقرأ في الثانية بعد الفاتحة من البقرة.

وقال بعض أصحابنا – والكلام للنووي -:

ويستحب إذا قرأ سورة أن يقرأ بعدها التي تليها ودليل هذا أن ترتيب المصحف إنما جعل هكذا لحكمة فينبغي أن يحافظ عليها إلا فيما ورد المشرع باستثنائه كصلاة الصبح يوم الجمعة يقرأ في الأولى سورة السجدة وفي الثانية هل أتى على الإنسان.

وأخيرا هذه الكلمة الجامعة من ابن الأنباري لها دورها في تقرير المسألة:

قال أبو بكر بن الأنباري أنزل الله القرآن كله إلى سماء الدنيا ثم فرق في بضع وعشرين فكانت السورة تنزل لأمر يحدث والآية جوابا لمستخبر ويوقف جبريل النبي صلى الله عليه وسلم على موضع السورة والآية فاتساق السور كاتساق الآيات والحروف كله عن النبي صلى الله عليه وسلم فمن قدم سورة أو أخرها فقد أفسد نظم الآيات.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015