4 - الكلية حيث يطلق الكل ويراد الجزء؛ نحو قوله تعالى: "يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم" إذ أطلق الأصبع كله وأراد جزءاً منه؛ ويدعم هذا المعنى قول الشوكاني:" إطلاق الأصبع على بعضها مجاز مشهور، والعلاقة الجزئية والكلية؛ لأن الذي يجعل في الأذن إنما هو رأس الأصبع لا كلها " وهذا المثال أيضا فيه نظر؛ إذ أن مسألة إطلاق الكل وإرادة الجزء في الآية أمر معروف ومعتاد وشائع في اللغة؛ فإذا قلت " ضرب زيد عمراً " لم يكن في ذلك مجاز؛ وإن لم يضرب زيد عمراً كله وإنما ضرب رأسه أو صدره أو رجله أو غيرها. ولو صح ذلك لكانت اللغة كلها مجازا كما يقول ابن جني.

5 - الجزئية حيث يطلق الجزء ويراد الكل؛ نحو قوله تعالى "فَكُّ رَقَبَةٍ" إذ أطلق الرقبة وأراد الإنسان كله، وهذا المثال أيضا فيه نظر؛ إذ لو صح ذلك لسمي الحر رقبة أيضاً؛ إذ له رقبة كما للعبد أيضاً، ولا يمكن تخيّل الرقبة بمعزل عن بقية الجسم في إنسان سواء كان حرا أو عبدا، ولكن هناك معنى دقيق شديد الأهمية؛ وهو: أن الأمر لما كان مقتصراً على العبد دون الحر؛ فهذا ذم للعبودية التي صورت في الآية وكأنها معاملة للحيوان المربوط من الرقبة؛ ألا ترى أنه قرن الـ " فك" بالرقبة فيتخيل السامع - بإعتاق العبد - فك رقبة الحيوان المربوط وتحريره، وهذا أقرب إلى الاستعارة منه إلى المجاز المرسل، وهذا المعنى الأخير هو أبلغ في ذلك من مسألة الجزئية هذه.

6 - المجاورة حيث يطلق الشيء ويراد ما يجاوره؛ نحو قوله تعالى: "وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ" إذ أطلق الثياب وأراد القلب، وقيل أراد الجسم وقيل النفس وقيل الخلق وغيرها، وهذا المثال أيضا فيه نظر، ومعلوم أن طهارة الثياب أمر مطلوب في العبادة، ثم أنه ليس هنالك من علاقة بين الثياب والجسوم أو القلوب، أما ادعاء المجاورة فبعيد؛ يقول ابن الأثير:" ليس بين الثياب والقلب وصف جامع، ولو كان بينهما وصف جامع لكان التأويل صحيحاً" وقد بالغ ابن حزم الأندلسي النكير على من زعم المجاز في هذه الآية التي ليس فيها دليل عليه؛ يقول: " وأعجب العجب أن هؤلاء القوم يأتون إلى الألفاظ اللغوية فينقلونها عن موضوعها بغير دليل؛ فيقولون معنى قوله تعالى: وثيابك فطهر - ليس الثياب المعهودة وإنما هو القلب "

ب/ ً المجاز العقلي:

المجاز العقلي عند البلاغيين هو: إسناد الفعل أو معناه إلى ملابس هو غير ما له بتأويل، وقيل هو: الكلام المفاد به خلاف ما عند المتكلم من الحكم لضرب من التأويل، وقد استغل المعتزلة هذا النوع من المجاز استغلالاً واسعاً في محاولة تأويل الآيات التي أسند فيها الفعل لله فخالفت أقوالهم في وجوب الصلاح والأصلح والعدل والتخيير وغيرها. وقد أنكر القزويني هذا النوع من المجاز وأوّل أمثلته بالاستعارة المكنية؛ يقول: " والذي عندي هو نظمه في سلك الاستعارة بالكناية" وقد حدد بعض البلاغيين للمجاز العقلي أشكالاً؛ منها الآتي:

1 - إطلاق اسم الفاعل وإرادة اسم المفعول؛ وذلك نحو قوله تعالى:"مِن مَّاء دَافِقٍ" أي: مدفوق، وقوله: "فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ" أي: مرضية، وقوله: "لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ" أي: لا معصوم، ومنه قول الحطيئة أيضاً:

دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

أي: المطعوم المكسو.

وهذه القاعدة فيها نظر؛ إذ أن لفظ دافق وراض وعاصم ليس بمعنى مدفوق ومرضي ومعصوم عند أهل اللغة، بل هي عندهم بمعنى ذو دفق وذو رضا وذو عصمة؛ ومنه قولهم: فارس وتارس ودارع ونابل ورامح وشاحم ولاحم؛ بمعنى: ذو فرس وذو ترس وذو درع وذو نبل وذو رمح وذو شحم وذو لحم، وهذا مذهب سيبويه والزجاج ومنه أيضاً قول الحطيئة.

وغررتني وزعمت أنك لابن في الصيف تامر

أي ذو لبن وذو تمر

أما قوله: " الطاعم الكاسي " فالمراد به السخرية بعكس الصفة؛ ومنه قوله تعالى: "ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ" أي الذليل المهان، ويقول الإمام الطبري: " لم يضطرنا شيء إلى أن نجعل عاصماً في معنى معصوم، ومعنى ذلك لا منجى اليوم من عذابه، وهذا هو الكلام المعروف والمعنى المفهوم " ويقول الإمام القرطبي في قوله: "لاَ عَاصِمَ "أي: " لا مانع منه؛ فإنه يوم حق فيه العذاب على الكفار "

2 - إطلاق اسم المفعول وإرادة اسم الفاعل؛ نحو قوله تعالى: "جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا" أي: ساتراً. وهذه القاعدة أيضا فيها نظر؛ إذ ذهب بعضهم إلى أنه: " لا يجوز أن يكون مفعول بمعنى فاعل كقوله: حجاباً مستوراً؛ لأنه سماعي لا يجوز فيه القياس" وهذا دليل على أن هذه القاعدة غير مطردة؛ إذ قصروها على هذه الآية، ولكن هذه الآية نفسها - كما ذهب بعض العلماء - لا تجوز فيها هذه القاعدة أيضاً؛ يقول الإمام الطبري راداً على من ادعى ذلك: " وكان بعض نحويي أهل البصرة يقول - في قوله تعالى حِجَابًا مَّسْتُورًا -: حجاباً ساتراً ولكنه أخرج – وهو فاعل – في لفظ مفعول ... وكان غيره من أهل العربية يقول: معناه حجاباً مستوراً عن العباد فلا يرونه، وهذا القول الثاني أظهر بمعنى: أن المستور هو الحجاب " وهذا المعنى أبلغ من ذلك الأول، ومعلوم أن المجاز إذا لم تكن فيه زيادة فائدة لا يمال إليه.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015