ج- ذهب بعضهم إلى أن في الآية مجاز؛ حيث أطلق المحل وأراد الحال فيه؛ وهو أهله.

والحق أن هذه الأقوال جميعاً فيها نظر؛ إذ لم يرد – عند الباحث- سؤال الجماد، كما أن الآية ليس فيها من حذف ولا مجاز، ومعلوم أن القرية لا تطلق على الأرض دون البشر؛ وكذلك النادي؛ إذ أن القرية مشتقة من قرَّ بالمكان ومنه الاستقرار، أما النادي فيقول ابن منظور: " النادي لا يسمى نادياً حتى يكون فيه أهله، وإن تفرقوا لم يكن نادياً " ويقول صاحب مختار الصحاح: " النادي مجلس القوم ومتحدثهم، فإن تفرق القوم فليس بناد" وبذلك فإنه أراد القرية نفسها والنادي نفسه باعتبار أنهما بشر ثم أرض، والحق أن قاعدة المجاز في إطلاق الجماد وإرادة البشر - إن صحت جدلا - فهي غير مطردة؛ يقول ابن الأثير: "لا يصح ذلك إلا في بعض الجمادات دون بعض؛ إذ المراد أهل القرية ممن يصح سؤالهم، ولا يجوز اسأل الحجر أو التراب"، ومعلوم أن الاطراد دليل صحة القاعدة فإن انتفى فليست بقاعدة.

3 - الحاليّة حيث يطلق الحال ويراد المحل، ومن ذلك قوله تعالى: "وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" وقوله: "إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ" إذ أطلق الحال وهو الرحمة والنعيم وأراد الجنة. وهذا المثال أيضا فيه نظر؛ إذ أن قوله تعالى: "فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ" معناه أنهم في رحمة الله بحيث لا يسخط عليهم أبداً، أما الحرف "في" الذي أوهم أنهم حالون في مكان ما؛ هو الجنة – فيمكن أن يكون الرد عليه: أن التعبير القرآني قد يأتي بمثل هذه الحروف لإيصال معنى دقيق؛ وقد جاء الحرف "في" في الأسلوب القرآني مع الأمور المعنوية كما في هذه الآية، ومثل ذلك أيضاً قوله تعالى: "وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ" فقد جاء بالحرف " على" مع الهدى وكأن المهتدي معتلياً دابة ينظر في الطريق الذي يسلكه فلا يضل - كما أشار الزمخشري؛ أما الحرف " في" فقد صور الضلال وكأنه بئر مظلمة يغطي الظلام من وقع فيها من كل جانب، وقد جاء الحرف " في" مع الرحمة للدلالة على الإسباغ بالرحمة والانغماس فيها بالكلية. ومثل ذلك قوله تعالى: "إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ" فالنعيم أمر معنوي كالرحمة ولا يمكن حلوله في مكان هو الجنة، ولو كان النعيم هو الجنة فهل قوله تعالى بعدها: "تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ"بمعنى نضرة الجنة؛ ومعلوم أن ما يلقاه الأبرار في الآخرة هو أكبر وأحسن من الجنة؛ قال تعالى: "وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ" أي: أكبر من الجنة ومثله قوله تعالى: "لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" والحسنى هي الجنة والزيادة هي النظر إلى وجه ربهم، ولذلك تراه قرن بين النعيم البادي في الوجوه وبين رؤية الله تعالى في قوله "إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ" فـ"النعيم"الأولى من الآية هي "النعيم"الثانية وليس هما بمتغايرتين، وليس من الضرورة أن يكون النعيم والنعمة أمراً حسياً؛ ومثال ذلك أيضاً قوله تعالى: "وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً " فسمى التحبيب والتكريه فضلاً ونعمة، ولهذا فإن النعيم الذي فيه الأبرار يمكن أن يشمل كل ما يناله الأبرار من تكريم ونظر إلى وجه ربهم، وهذا الأخير هو أفضل شيء ينالوه على الإطلاق؛ يقول الإمام الطبري: " يتجلى لهم تبارك وتعالى فيصغر عندهم كل شيء أعطوه، وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: يكشف الحجاب فيتجلى لهم؛ فو الله ما أعطاهم شيئاً أحب إليهم من النظر إلى وجهه "

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015