فاستحسن الفضل ذلك واستحسنه السائل، ويقول أبو عبيدة - معلقاً على هذه القصة -: " وعزمت من ذلك اليوم أن أضع كتاباً في القرآن في هذا و أشباهه، وما يحتاج إليه من علمه؛ فلما رجعت إلى البصرة عملت كتابي الذي سميته المجاز" وهذه القصة التي أوردها التعالبي وياقوت الحموي فيها نظر؛ وذلك لأسباب كثيرة منها أن المجاز لم يكن عند أبي عبيدة غير الشرح ولم يعن به هذا المصطلح المتأخر والحق أن أول من تناول المجاز - كما هو ثابت – عمرو بن بحر الجاحظ.

هذا وقد ظل المجاز محور اهتمام البلاغيين فيما بعد حتى أنه أفردت له المصنفات نحو مصنف الشريف الرضي وغبره، إلا أن البلاغيين أنفسهم قد اختلفوا في حدود هذا المجاز، فمنهم من ضيق، ومنهم من وسع كالإمام الرازي الذي جعل للمجاز اثني عشر وجهاً؛ بعضها مقبول لا غبار عليه؛ وبعضها غير مقبول؛ مثل: التجوز بالمضادة كتسمية السيئة جزاء، والتحوز بالعرف، والتجوز بالزيادة والنقصان

وقد ردّ ابن الأثير على من زعم أن في القرآن لفظاً زائداً رداً شديداً؛ يقول: " إذا كانت " أي الزيادة" دالة؛ فكيف يسوغ أن يقال أنها زائدة .. ولو كانت زائدة لكان ذلك قدحا في كلام الله تعالى؛ وذلك أنه قد نطق بزيادة في كلامه لا حاجة إليها والمعنى يتم بدونها؛ فحينئذ لا يكون معجزاً؛ إذ من شرط الإعجاز عدم التطويل الذي لا حاجة إليه، وأن التطويل عيب في الكلام فكيف يكون ما هو عيب في الكلام من باب الإعجاز، هذا محال". والحق أن النحويين هم الذين يقولون بالزيادة؛ إلا أنهم يقصدون الزيادة في التركيب؛ لأنهم ينظرون إلى الإعراب وليس دقيق المعاني؛ ولهذا يقول ابن الأثير: " وهذه رموز لا تؤخذ من النحاة؛ لأنها ليست من شأنهم"

ومعلوم أن المجاز له حدوده وأبعاده التي لا يدخل فيها ما ليس منه، وكما ذم البلاغيون من جعل ما ليس بمجاز مجازاً فقد ذموا أيضاً من أنكر المجاز على إطلاقه؛ لأن ذلك مخالف لطبيعة اللسان العربي نفسه؛ وقد سمى الإمام الطبري من أنكروا المجاز في مواضعه بذوي الجهالة والغباء والبلادة

ورغم أن البلاغيين قد ردوا على غيرهم وثبتوا للمجاز حدوده وقواعده؛ إلا أننا يمكن أن ننظر إلى قواعدهم المشهورة تلك فنعرضها على أقوال أهل اللغة والمفسرين وغيرهم ونقوم بنقدها بناء على ذلك؛ وتفصيل هذا كالنحو الآتي:-

أ/ المجاز المرسل: -

حدد البلاغيون للمجاز المرسل عدة علاقات منها الآتي:

1 - المسببية حيث يطلق المسبب ويراد السبب، ومن ذلك قوله: "وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاء رِزْقًا" إذ أطلق الرزق وأراد المطر؛ يقول الإمام القرطبي - داعماً هذا المعنى -: " هو المطر بدليل قوله ‘ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكًا " ولم يشاهد ينزل من السماء على الخلق أطباق الخبز ولا جفان اللحم؛ بل الأسباب أصل في وجود ذلك" وهذا المثال فيه نظر؛ إذ أن تسمية المطر رزقاً باعتبار أنه هو السبب فيه وليس هو - ليست أمرا مطردا؛ لأن الرزق هو العطاء مطلقاً؛ قال تعالى: "وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ" والميراث المرزوق منه لا يكون - في الغالب - خبزاً أو لحماً.

2 - المحلية حيث يطلق المحل ويراد الحال؛ مثل قوله: "وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ" وقوله: "فَلْيَدْعُ نَادِيَه" وإنما أراد أهل القرية وأهل النادي. وهذا المثال أيضا فيه نظر، وللعلماء في ذلك أقوال مختلفة؛ منها الآتي:

أ - ذهب بعضهم إلى المراد واسأل القرية نفسها؛ يقول الإمام القرطبي: " قيل المعنى: واسأل القرية – وإن كانت جماداً – فأنت نبي الله وهو ينطق الجماد لك " ويرد ابن حزم على من قال ذلك بقوله: " بلى هو القادر على ما يشاء وكل ما يتشكل في الفكر، ولكن كل مالم يأتنا به نص أنه خرق فيه ما تمت به كلماته من المعهودات فهو مكذب"

ب - ذهب بعضهم إلى أن هذه الآية فيها حذف للمضاف وهو لفظ " أهل" وقد بالغ عبد القاهر الجرجاني في النكير على من أطلق المجاز على الحذف، وقد اعترض الإمام القرطبي على مسالة الحذف في هذه الآية محتجاً بكلام سيبويه؛ يقول الإمام القرطبي: " لا حاجة إلى إضمار " حذف"؛ قال سيبويه: لا يجوز كلَّم هنداً وأنت تريد غلام هند"

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015