ولئن كان أبو تمام هو أشهر شعراء المحدثين الذين كلفوا بالبديع فخرجوا عن الطريقة العربية المألوفة؛ فهو ليس من ابتدع هذه الطريقة، وإنما اختط هذه الطريقة مسلم بن الوليد؛ إلا أبا تمام مثّل مركزاً قائماً برأسه فيها ومن النماذج التي ذهب فيها أبو تمام مذهباً بعيداً قوله:
فضربت الشتاء في أخدعيه ضربة غادرته عوداً ركوبا
فجعل للشتاء أخدعين يضرب فيهما
وقوله:
لا تسقني ماء الملام فإنني صب قد استعذبت ماء بكائي
فجعل للملام ماء
وقد روي: أن أحد المجان أرسل إلى أبي تمام قارورة فقال: "ابعث إليّ في هذه شيئاً من ماء الملام" فأرسل إليه أبو تمام قائلاً: "إذا بعثت إليّ بريشة من جناح الذل بعثت إليك شيئاً من ماء الملام " وقد رد ابن الأثير على مقارنة أبي تمام لبيته العجيب بالآية الكريمة
ولما كانت طريقة المحدثين والمولدين ليست طريقة العرب الأوائل الذي يستشهد بأقوالهم على معاني القرآن والسنة - فقد رفض أهل اللغة الاستشهاد بأقوال المحدثين والمولدين، إلا أن المعتزلة من علماء اللغة قد أجازوا ذلك؛ بل واستشهدوا بذلك أيضاً والحق أن الاستعارات والمجازات قد وقعت للعرب الأوائل الذين يستشهد بكلامهم، لكن طريقتهم التي تأتت بالسليقة والطيع الجيد والتي قامت على المقاربة بين الطرفين في التشبيه والمجاز وخلت من التعسف والتكلف - غير طريقة المحدثين والمولدين
يقول صاحب خزانة الأدب: " من كلام العرب استنبط كل فن؛ فإنهم ولاة هذا الشأن، لكنهم كانوا يؤثرون عدم التكلف، ولا يرتكبون من فنون البديع إلا ما خلا من التعسف"، ويقول الجاحظ: " ولم أجد في خطب السلف الصالح ولا الأعراب الأقحاح ألفاظاً مسخوطة، ولا معان مدخولة، ولا طبعاً رديئاً، ولا قولاً مستكرهاً، وأكثر ما نجد ذلك في خطب المولدين ومن البلديين المتكلفين ومن أهل الصناعة المتأدبين، سواء كان ذلك منهم على جهة الارتجال والاقتضاب أو كان من نتاج التحبير والتفكير "، ويقول القاضي عبد العزيز الجرجاني - عن أبي تمام -: " إنه تعسف ما أمكن وتغلغل في التصعّب كيف قدر، ولم يرض بذلك حتى أضاف إليه طلب البديع فتحمله من كل وجه، وتوصل إليه بكل سبب، ولم يرض بهاتين الخلتين حتى اجتلب المعاني الغامضة وقصد الأغراض الخفية؛ فاحتمل بها كل غث ثقيل وأرصد لها الأفكار بكل سبيل؛ فصار هذا الجنس من شعره إذا قرع السمع لم يصل إلى القلب إلا بعد إتعاب الفكر وكدّ الخاطر؛ فإن ظفر به فذلك من بعد العناء والمشقة وحين حسره الإعياء وأوهن قوته الكلال، وتلك حال لا تهش بها النفس للاستماع بحسن والاستلذاذ بمستطرف " القاضي ويقول عنه أيضاً: " وللنفس عن التصنع نفرة، ومن مفارقة الطبع قلة الحلاوة وذهاب الرونق وإخلاق الديباجة، وربما كان ذلك سبباً لطمس المحاسن كالذي نجدهـ كثيراً في شعر أبي تمام"
ـ[جمال الدين عبد العزيز]ــــــــ[04 Mar 2009, 03:46 م]ـ
التأويل والبلاغة:-
اهتم البلاغيون بالمجاز اهتماماً خاصاً وأفردوا له علماً كاملاً من علومهم الثلاثة، وهو علم البيان؛ يقول ابن الأثير - عن المجاز -: " هذا الفصل مهم كبير من مهمات علم البيان؛ بل هو علم البيان بأجمعه" ولما كان الأمر كذلك فقد وضع البلاغيون لهذا العلم أصوله وقواعده حسب رؤاهم؛ وليس ذلك فحسب بل ردوا على بعض الأصوليين الذين توسعوا فيه، وذلك نحو رد ضياء الدين بن الأثير على الإمام الغزالي كما سيأتي.
ويقال إن أول من تناول قضية المجاز أبو عبيدة بن المثنى؛ وذلك أنه قد أرسل إليه الفضل بن الربيع من البصرة؛ فلما قدم سأله أحد كتاب الفضل – وهو إبراهيم بن إسماعيل – عن قوله تعالى: " طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ" وقال: إنما يقع الوعد بما عرف مثله؛ وهذا لم يعرف مثله، فقال أبو عبيدة: إنما كلّم العرب على قدر كلامهم؛ أما سمعت قوله امري القيس:
أيقتلني والمشرفي مضاجعي ومسنونة زرق كأنياب أغوال
¥