اختلف العلماء المسلمون اختلافاً كبيراً في كون اللغة توقيف ووحي وإلهام أم اصطلاح ومواضعة؟ ولعل هولاء العلماء ما اختلفوا في هذه القضية إلا لكونها شديدة الارتباط بقضية المجاز والتأويل وقد ذكر الإمام السيوطي ذلك صراحة؛ إذ يقول إن فائدة البحث في قضية مبدأ اللغات هذه: "النظر في جواز قلب اللغة، فحكى عن بعض القائلين بالتوقيف منع ذلك مطلقاً، فلا يجوز تسمية الفرس ثوباً والثوب فرساً؛ وعن القائلين بالاصطلاح تجويزها ".ومعلوم أنه يلزم من القول بكون اللغة اصطلاح ومواضعة – جواز النقل؛ فأهل اللغة قد سموا الفرس فرساً مع إمكان أن يسموه حجراً أو إنساناً أو رأساً أو مبرداً أو غير ذلك، كما يلزم عنه أنه ليست لغة قوم بعينهم بأولى في الاحتجاج من لغة قوم آخرين؛ إذ أن اللغة اختراع وتواضع واصطلاح، فإذا ثبت بأن قوماً قد اخترعوا ألفاظاً فليسوا هم بأحق في ذلك من غيرهم، وهذا المذهب قد قال به المعتزلة المتوسعون في المجاز والتأويل، وذهب ابن جني – وهو من المعتزلة- إلى أن أصل اللغات إنما هو من أصوات المسموعات الطبيعية. ولا يتوسع ابن جني في المجاز فحسب، بل يزعم أن اللغة كلها أو أكثرها مجاز لا حقيقة يقول ابن جني في ذلك: " اعلم أن أكثر اللغة مع تأمله مجاز لا حقيقة، ألا ترى أن نحو قام زيد معناه: كان منه القيام، أي هذا الجنس من الفعل، ومعلوم أنه لم يكن منه جميع القيام، والجنس يطلق على جميع الماضي وجميع الحاضر وجميع الآتي من الكائنات من كل من وجد منه القيام " ويرد ضياء الدين ابن الأثير على كل من قال أن اللغة كلها مجاز أو من قال كلها حقيقة، يقول: " وذهب قوم إلى أن اللغة كلها مجاز، وذهب آخرون إلى أنها كلها حقيقة، وكلا هذين المذهبين فاسد عندي "

وقد تمسك المعتزلة بقضية الاصطلاح والتواضع؛ لأن القول بذلك يفضي إلى التوسع والتأويل والمجاز الذي يتمكنون به من تسويغ ما يخالف ظاهر القرآن من اعتقاداتهم وأفكارهم ومبادئهم؛ ولهذا ربط الإمام السيوطي بين القول بالاصطلاح والفكر الاعتزالي؛ يقول: " قال ابن جني – وكان هو وشيخه أبو على الفارسي معتزليين-: وهذا موضع محوج إلى فضل تأمل، غير أن أكثر أهل النظر على أن أصل اللغة إنما هو تواضع واصطلاح لا وحي توقيف" ويقول أيضاً "ذهب المعتزلة إلى أن اللغات بأسرها تثبت اصطلاحاً" وقد تنبه العلماء إلى خطورة القول بالاصطلاح والتوسع في نفل دلالات اللغة بالتجوز، إذ أن قلب اللفظ يؤدي إلى مزالق في غاية الخطورة، يقول المازري: " هذا كله يؤدي قلبه إلى فساد النظام وتغييره واختلاف الأحكام"

ـ[جمال الدين عبد العزيز]ــــــــ[04 Mar 2009, 03:43 م]ـ

التأويل والأدب:

ارتبطت قضية التأويل ارتباطاً وثيقاً بما ظهر من تجديد في الشعر العربي في القرن الثالث الهجري، إذ ظهرت المباعدة بين الطرفين في التشبيهات والغرابة في المجازات والاستعارات، وكانت هذه الألوان تعدّ فيما سمي بالبديع الذي يدل لغوياً على الحداثة والتجديد- خلافاً للتقسيم البلاغي المتأخر - وبذلك خالف الشعراء المحدثون والمولدون طريقة العرب القدماء في التعبير، ولهذا قامت المعركة الشهيرة بين أنصار القديم وأنصار الحديث، وقد كان موقف أنصار القديم مبنياً على المحافظة على المعيار العربي الأصيل الذي جرى عليه أسلوب القرآن الذي مثّل القمة الشماء التي لا تدرك في البلاغة والإعجاز، ولهذا رفض كثير من البلاغيين والنقاد أن تكون هذه المعايير الجديدة مقياساً للإجادة ومعياراً للاستحسان لما فيها من تكلف بيّن؛ يقول الرازي: " فصاحة القرآن ليس لأجل هذه التكلفات؛ بل لقوة المعاني وجزالة الألفاظ"

ولما كانت المباعدة بين الطرفين في التشبيه والمجاز والاستعارة من شأنها أن تشكل في التعبير غموضاً وتجعل في الأسلوب من التعقيد ما لا يتضح معه المعنى – فقد شكا كثير من البلاغيين والنقاد العرب من فرط شغف المحدثين بالبديع الذي يصيب الكلام بالغموض حتى لينسى الأديب أو الشاعر أنه يتكلم ليفهم ويقول ليبين، وقيل أن أعرابياً - تعوّد على الكلام العربي الواضح - قال لأبي تمام: " لم لا تقول من الشعر ما يفهم؟ "فرد عليه أبو تمام: " وأنت لم لا تفهم من الشعر ما يقال؟ ".

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015