من مِنّا -إلا من شاء الله- يشعر بأن ما يقرؤه من قرآن إنما هو تكليف يُناط بعاتقه، وعليه أن يُحوِّله إلى قرآن مرئي يسير به ويعمل به؟! لقد كان الجيل الأول يشعر بهذا المعنى؛ فلم يكن أحدهم يتجاوز عشر آيات حتى يتعلم ما فيها من العلم والعمل، وكان أحدهم يقرأ القرآن وهو يشعر أن الله يخاطبه ويناجيه؛ فكان تحت هذا الشعور يتحول إلى طاقة قرآنية يهون تحتها كل عبء، ويتحطم دونها كل عائق؛ فتحول الجيل إلى جيل قرآني فريد، كيف لا ورسوله ? قدَّم النموذج الأكمل للتخلُّق بالقرآن حين قالت زوجته عائشة رضي الله عنها: "كان خلقه القرآن".
إن قراءة القرآن الصحيحة تحتاج إلى أن نزيل هذا الركام من المعاني التي تعوق انقداح شرارة الطاقة وتُقيِّدها، وقد حاولت بعض المدارس التفسيرية ذلك إلا أن بعضها يخرج من ركام ويهيل ركاماً آخر .. نجد بعض هذه المدارس تُحذِّر من رواية (الإسرائيليات) وتُشنِّع على قائلها، ثم نجدها تغرق في النقل من التوراة والإنجيل مباشرة، ومنهم من أغرق التفسير بالمباحث الفقهية أو البلاغية أو التفسير العلمي!
وهذه المدرسة (مدرسة محمد عبده) كغيرها من المدارس لها إيجابيات ولها سلبيات؛ فمن مدح نظر إلى الإيجابيات، ومن ذمَّ نظر إلى السلبيات، ونحن هنا نتحدث عن المنهج لا عن الأفراد.
كما أن للمدرسة أثر ظاهر في تجديد الفكر الإسلامي بشكل عام والتفسير بشكل خاص، إلا أن التجديد ينبغي أن يلتزم بضوابط، وأن يُحدَّ له حدٌّ، وإلا خرج إلى التغيير والتبديل، وهذا وذاك هو ما حدث من بعض تلاميذ هذه المدرسة.
الفرقان: من اتجاهات التفسير التي ظهرت في العصر الحديث: الاتجاه العلمي؛ أي تفسير القرآن تفسيراً علميّاً وفق معطيات العلم الحديث. ما رأيكم فيه، وما الشروط التي يجب الأخذ بها حتى يكون مقبولاً، وما الفرق بين مصطلحي الإعجاز العلمي والتفسير العلمي؟
د. الرومي: مخاطبة الناس بما يعرفون أصل من أصول الدعوة، ويتسع نطاق المعرفة هذا ليشمل اللغة التي بها يتكلمون، والعلوم التي يدركون، والأعراف والعادات والعقائد التي يعتقدون؛ ولذا جاء القرآن بلسان عربي مبين، ودعاهم إلى النظر إلى الإبل كيف خُلقت؟! ولم يدعهم إلى النظر إلى الفيلة والزرافات وإن كانت الدعوة عامة.
لذا فإن على الداعية أن يخاطب كل قوم بلسانهم ومداركهم ومعارفهم، والعصر الحديث عصر نهضة علمية واختراعات واكتشافات صناعية وطبية وفلكية وغير ذلك؛ ومن ثَمَّ على دعاة العصر ومفسري القرآن الكريم منهم أن يسلكوا أقرب الطرق الممكنة لإقناع البشرية بهذا القرآن؛ فإذا كانت الاكتشافات العلمية سبيلاً إلى ذلك -وفي القرآن ما يدل عليها- وفي كشف ذلك إظهار لمكانة القرآن ومنزلته؛ فلا ضير في ذلك، بل هو مما ينبغي لنجذب بذلك قلوباً لا تعرف الإيمان، ونُرسِّخ الإيمان في قلوب مؤمنة.
وهذا المسلك مسلك زلق يحتاج إلى أناة ورويَّة؛ فالإنسان فيه لا يتكلم عن حدِّ علمه، بل هو يتكلم -حسب اعتقاد مستمعيه- عن مُقرَّرات قرآنية؛ لذا ينبغي على المفسر أن يُدرك ذلك ويعيه، وليحذر من القول بلا علم، فإنما هي الرواية عن الله، وعليه أن يختار العبارات الدقيقة، ولا يبالغ في تقرير ما لم يثبت.
ولذا وضع العلماء شروطاً للتفسير العلمي وأرى أن من أهمها:
1. أن لا تطغى تلك المباحث على المقصود الأول من القرآن الكريم -وهو الهداية-؛ فتصبح هذه العلوم من الركام الذي يُثقل كاهل الهداية القرآنية، كما أشرت في جواب السؤال السابق.
2. أن يُراعى في ذِكْر هذه المباحث تعميق الشعور الديني للمسلم والدفاع عن العقيدة الإسلامية.
3. أن لا تُذكر هذه المسائل على أنها هي التفسير الذي لا يدلُّ النص القرآني على سواه، بل تُذكر لتوسِّع مدلول النص القرآني، وللاستشهاد بها على وجه لا يُؤثِّر بطلانها فيما بعد على قداسة النص القرآني.
كما ينبغي على المفسر -وهذا مهم- أن يستعلي بالقرآن؛ فلا يستجدي موافقة النظريات العلمية لآياته فيُكَيِّف -إن لم نقل يتلاعب- بالنص القرآني حتى يوافق تلك النظرية أو حتى الحقيقة العلمية أو ما نحسبه حقيقة؛ فالقرآن هو الأصل الذي نحتكم إليه ونرجع، وإعجازه ومكانته لا يتوقف على موافقة نظرية أو مخالفتها، بل هو ثابت قطعاً لا مراء فيه ولا شك، ومن ثم فلسنا بحاجة ضرورة إلى هذا فضلاً عن التكلُّف فيه.
¥