وقد كتبت في ذلك بحثين مختصرين ليكونا بطاقة دعوة للباحثين لدراسات شاملة وهو موضوع يحتاج إلى معرفة وتمكُّن من علم البلاغة وأسرارها.
والبدهيات في القرآن الكريم أنواع حاولت تقسيمها إلى أقسام ذكرت منها:
1. البدهية الحسابية؛ كقوله تعالى: {فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة} [البقرة:196]، وعشرة نتيجة بدهية لثلاثة وسبعة لا تحتاج إلى إعمال ذهن؛ فما الحكمة من التصريح بها؟!
2. البدهية اللغوية؛ كقوله تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً} [الإسراء:1]، والإسراء لا يكون إلا ليلاً، ومع هذا صرَّح بالليل بعدها! وكقوله سبحانه: {ولا تعثوا في الأرض مفسدين} [العنكبوت:76]، والعيث: أشد الفساد ويدل عليه!
3. البدهية في الأمر المعتاد؛ كقوله تعالى: {من كان في المهد صبيّاً} [مريم:29]، فقوله: {في المهد} يدل على الطفولة والصبا؛ فما فائدة ذِكْر {صبيّاً} بعدها؟! وكقوله سبحانه: {أمواتٌ غير أحياء} [النحل:21]، وقوله: {لَتُبَيِّنُنَّه للناس ولا تكتمونه} [آل عمران:187]، وقوله: {وما كنت لديهم إذ يُلقون أقلامهم أيهم يكفُل مريم} [آل عمران:44]، ومعلوم قطعاً أنه لم يكن لديهم، ولم يَدَّعِ أحدٌ ذلك؛ فما الحكمة من نفيه؟! وكقوله: {ذلكم قولكم بأفواهكم} [الأحزاب:4]، ومعلوم أن القول لا يكون إلا بالأفواه.
النوع الثاني: مما يوقف المتدبرَ القيودُ التي نراها في بعض الأحكام الشرعية، والتي يُعلم عدم الأخذ بها أو إعمالها؛ مما يدعو المتدبر إلى السؤال عن الحكمة من ذِكْرها ما دامت مهملة أو عديمة الأثر في الحكم، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: {ولا تُكْرِهوا فتياتكم على البِغاء إن أردن تحصُّنا} [النور:33]، ومعلوم أن إكراهها لا يجوز سواء أرادت التحصُّن أم لم ترد! وكقوله تعالى: {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق} [الإسراء:31]، ومعلوم أن قتل الأولاد لا يصح خشي الإملاق أو لم يخشه! وكقوله: {وربائبكم اللاتي في حجوركم} [النساء:23]، والربيبة: هي بنت الزوجة. ومعلوم أنها تحرم على زوج أمها سواءً كانت في حِجْره أم لم تكن! وكقوله سبحانه: {فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم} [النساء:101]، ومعلوم أن قَصْرَ الصلاة في السفر غير مشروط بالخوف؛ إذ هو جائز مع الخوف والأمن! ويدخل تحت هذا النوع أكثر من عشرين نوعاً مما يطول ذِكْره. وهذه الوجوه عند تأملها تكشف أوجهاً بلاغيه جديدة؛ مما يكشف عن أن وجوه الإعجاز في القرآن متجددة.
وهذا النوع من المباحث الأصولية في باب المنطوق والمفهوم، ومن المباحث التفسيرية والبلاغية والعقائدية، وفيه مباحث ومسائل عديدة تتسع لعدة رسائل في كل علم.
الفرقان: ظهر في العصر الحديث العديد من المدارس التفسيرية كان من أشهرها مدرسة محمد عبده. وقد انقسم الناس في الحكم على هذه المدرسة بين مادح وقادح. ما رأيكم بهذه المدرسة، وهل كان لها دور في تجديد الفكر الإسلامي بشكل عام، وعلم التفسير بشكل خاص؟
د. الرومي: هذا سؤال تحتاج إجابته إلى مجلدات .. ذكرتُ في مقدمة رسالتي (منهج المدرسة العقلية الحديثة) أن وضع الأمة الإسلامية يُحَتِّم على علمائها وحكمائها تلمُّس علاجها بعد تشخيص دائها. وأن استقراء الأحداث وتاريخ هذه الأمة يؤكد أنها مرت بحالة أسوأ من حالها؛ فنزل القرآن وأخرجها بل وأنقذها من أدنى درجات الجاهلية إلى أن صارت خير أمة أُخرجت للناس. وصارت صاحبة السيف والقلم، واتسعت فتوحاتها حتى بلغت مشارق الأرض ومغاربها؛ فما بالها تنحط في هذا العصر إلى هذه الدرجة من التفكُّك والتحلل؟!
لا شك أن هذا يرجع إلى الاختلاف في طريقة قراءة القرآن وتلقيه، أصبحنا في هذا العصر نقرأ القران لمجرد التعبد بتلاوته ونيل الأجر والثواب الذي وُعِدْنا به؛ الحرف بعشر حسنات، لا يتجاوز ذلك إلا من شاء الله وهم قليل!
¥