وهذا ما نريده في بيان الفرق بين الإعجاز العلمي والتفسير العلمي؛ فالإعجاز العلمي حقيقة قرآنية تنبئ عن واقع القرآن؛ إذ لا يشك مؤمن أن القرآن لم ولن يصادم حقيقة علمية أبداً؛ لأن القرآن الكريم كلام الله العالم بحقائق العلوم، والخالق للكون والعالم بأسراره؛ فلا يمكن أن يخفى عليه شيء من أسراره، ولا يمكن أن يخالف كلامُه علمَه، أما التفسير العلمي فهو واقع المفسِّر وليس القرآن؛ فهو حسب فهم المفسِّر وإدراكه للنص القرآني والنظرية أو الحقيقة العلمية، وقد يصيب وقد يخطئ.
ولذا اقتصر بعض العلماء على الحد الأول؛ حد الإعجاز العلمي في القرآن، ولم ينزل إلى ميدان التفسير مكتفياً بهذه القناعة اليقينية، ولم يقف آخرون عند هذا الحد بل تجاوزوه إلى التفسير العلمي للأهداف التي أشرت إليها أولاً، ولا ضير في ذلك بل هو محمود إذا التُزم بالضوابط والشروط.
الفرقان: العصر الحديث أَطلق عليه بعض العلماء (عصر التفسير الموضوعي)، ودعوا إلى التوجه نحو هذا النوع من التفسير باعتباره يحقق الغاية من تفسير القرآن، وهي إصلاح الواقع على هدي القرآن ومنهجه. أما التفسير التحليلي أو التقليدي الذي يقوم على تفسير القرآن سورة سورة حسب ترتيب المصحف فيرون أنه لا يخدم هذا الهدف، ولا يَصْلُح لهذا العصر. هل توافقونهم هذا الرأي؟
د. الرومي: نزل القرآن الكريم من لدن حكيم عليم، عالم بحاجات البشرية أجمع منذ نزوله إلى يوم القيامة؛ فضمَّنه أوامره ونواهيه وأدلته وبراهينه، وما فيه العلاج كل العلاج والشفاء كل الشفاء. ومن هنا نعلم أن القرآن الكريم يشمل قضايا عديدة ومسائل كثيرة وأموراً لا تحصى عرض لها القرآن إما مباشرة أو بصورة غير مباشرة.
ولذا أعتقد أنه لا يمكن الإحاطة بموضوعات القرآن وقضاياه؛ لأنها قضايا الكون كله والبشرية أجمع، لكن من الممكن أن تكتب البحوث الكثيرة في ذات الموضوعات، من غير أن نزعم الشمول أو الإحاطة؛ فللتفسير الموضوعي بداية وليس له نهاية.
ولا يمكن أن تدرس قضية من قضايا القرآن الكريم في موضع إلا وتجد تمامَها وكمالَها وأجزاءها في آيات ومواضع أخرى، وهذا التكامل في الدراسة القرآنية إنما يتحقق بالتفسير الموضوعي.
ولا غنى للتفسير الموضوعي عن التفسير التحليلي؛ فهو يقوم عليه ويستند إليه، ولا يمكن الوصول إلى التفسير الموضوعي إلا بعد تجاوز التفسير التحليلي والمرور به والاستفادة منه، ثم الوصول إلى الدراسة الشمولية للموضوع، وهو ما نسميه (التفسير الموضوعي).
الفرقان: قال الزمخشري:
إن التفاسير في الدنيا بلا عدد**وليس فيها لَعَمْرِي مثل كشّاف
رغم ما قد يقال من تحفُّظ على ثنائه على "تفسيره" رحمه الله، إلا أن كلامه يدل على كثرة المصنفات في التفسير. من بين هذا الكم الهائل من كتب التفسير، ما هي التفاسير التي تنصح بقراءتها .. أولاً بالنسبة للمتخصصين في علم التفسير، ثم بالنسبة لغير المتخصصين؟
د. الرومي: جرى كثير من العلماء السابقين على الثناء على مؤلفاتهم وتفرُّدها عن غيرها وتفوقهم على الآخرين وسبقهم لهم أحياناً، وتجاوز كثير منهم ذلك إلى اختيار أسماء لمؤلفاتهم فيها ثناء وإعجاب لا يخفى .. وهذا يرجع لمفاهيم عصورهم؛ فلم يكن ذلك عندهم معيباً.
ولا أستطيع أن أحدد تفسيراً واحداً يصلح لكلِّ الناس؛ فالناس ذوو أمزجة وطبائع مختلفة فهم يختلفون في الأطعمة والأشربة والألبسة والمذاقات فلكلٍّ مذاقه، وفي العلوم كذلك منهم من يميل إلى الفقه ومنهم من يميل إلى التاريخ أو الأدب أو علم البلدان أو غير ذلك.
أما في التفسير فمن أراد أن يستلهم نصوص القرآن ومعانيها ودلالاتها وأحكامها فدونه "تفسير القرآن العظيم" لابن كثير رحمه الله تعالى، ومن أراد أن يقتفي ظلال النصوص القرآنية ويُحَلِّق في آفاقها ويسير في أجوائها ويستنشق نسيمها فدونه "الظلال" لسيد قطب رحمه الله تعالى، ومن أراد أن تُبْهِرَه بلاغة القرآن وتشده فصاحته وتسلبه لُبَّه دلالات ألفاظه ومعانيه فدونه "التحرير والتنوير" لابن عاشور رحمه الله تعالى.
وفي أول هذه التفاسير الثلاثة -أعني تفسير ابن كثير- متسع للمتخصص وغير المتخصص.
الفرقان: هل من نصيحة تقدمونها لطلبة العلم، وخاصة طلبة التفسير وعلوم القرآن؟
¥