ورحمة الله تفيض على عباده جميعاً؛ وتسعهم جميعاً؛ وبها يقوم وجودهم، وتقوم حياتهم. وهي تتجلى في كل لحظة من لحظات الوجود أو لحظات الحياة للكائنات. فأما في حياة البشر خاصة فلا نملك أن نتابعها في كل مواضعها ومظاهرها؛ ولكننا نذكر منها لمحات في مجاليها الكبيرة:
إنها تتجلى ابتداء في وجود البشر ذاته. في نشأتهم من حيث لا يعلمون. وفي إعطائهم هذا الوجود الإنساني الكريم؛ بكل ما فيه من خصائص يتفضل بها الإنسان على كثير من العالمين.
وتتجلى في تسخير ما قدر الله أن يسخره للإنسان، من قوى الكون وطاقاته. وهذا هو الرزق في مضمونه الواسع الشامل. الذي يتقلب الإنسان في بحبوحة منه في كل لحظة من لحظات حياته.
وتتجلى في تعليم الله للإنسان، بإعطائه ابتداء الاستعداد للمعرفة؛ وتقدير التوافق بين استعدادته هذه وإيحاءات الكون ومعطياته. . هذا العلم الذي يتطاول به بعض المناكيد على الله، وهو الذي علمهم إياه! وهو من رزق الله بمعناه الواسع الشامل كذلك.
وتتجلى في رعاية الله لهذا الخلق بعد استخلافه في الأرض، بموالاة إرسال الرسل إليه بالهدى، كلما نسي وضل؛ وأخذه بالحلم كلما لج في الضلال؛ ولم يسمع صوت النذير، ولم يصغ للتحذير. وهو على الله هين. ولكن رحمة الله وحدها هي التي تمهله، وحلم الله وحده هو الذي يسعه.
وتتجلى في تجاوز الله - سبحانه - عن سيئاته إذا عمل السوء بجهالة ثم تاب، وبكتابة الرحمة على نفسه ممثلة في المغفرة لمن أذنب ثم أناب. «وأخرج الشيخان بإسناده عنه رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: جعل الله الرحمة مائة جزء. فأمسك عنده تسعة وتسعين، وأنزل في الأرض جزءاً واحداً. فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائق، حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه».
وأخرج مسلم - بإسناده عن سلمان الفارسي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -: «إن لله مائة رحمة. فمنها رحمة يتراحم بها الخلق بينهم، وتسعة وتسعون ليوم القيامة».
«وله في أخرى: إن الله تعالى خلق يوم خلق السماوات والأرض مائة رحمة، كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض. فجعل منها في الأرض رحمة واحدة، فيها تعطف الوالدة على ولدها، والوحش والطير بعضها على بعض. فإذا كان يوم القيامة أكملها الله تعالى بهذه الرحمة».
وهذا التمثيل النبوي الموحي، يقرب للإدراك البشري تصور رحمة الله تعالى. . ذلك إذ ينظر إلى رحمة الأمهات بأطفالها في الخلائق الحية ويتملاها ويعجب لها، وإلى رحمة القلوب البشرية بالطفولة والشيخوخة، والضعف والمرض؛ وبالأقرباء والأوداء والأصحاب؛ وبرحمة الطير والوحش بعضها على بعض - ومنها ما يدعو إلى الدهش والعجب - ثم يرى أن هذا كله من فيض رحمة واحدة من رحمات الله سبحانه. . فهذا مما يقرب إلى إدراكه تصور هذه الرحمة الكبرى شيئاً ما!
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يني يعلم أصحابه ويذكرهم بهذه الرحمة الكبرى:
عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: «قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسبي. فإذا امرأة من السبي تسعى قد تحلب ثديها، إذ وجدت صبياً في السبي، فأخذته، فألزقته ببطنها فأرضعته. فقال - صلى الله عليه وسلم -:» أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟ «قلنا: لا والله وهي تقدر على ألا تطرحه. قال: فالله تعالى أرحم بعباده من هذه بولدها». (أخرجه الشيخان).
وكيف لا. وهذه المرأة إنما ترحم ولدها، من فيض رحمة واحدة من رحمات الله الواسعة؟
ومن تعليم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه هذه الحقيقة القرآنية، بهذا الأسلوب الموحي، كان ينتقل بهم خطوة أخرى؛ ليتخلقوا بخلق الله هذا في رحمته، ليتراحموا فيما بينهم وليرحموا الأحياء جميعاً؛ ولتتذوق قلوبهم مذاق الرحمة وهم يتعاملون بها، كما تذوقتها في معاملة الله لهم بها من قبل.
عن ابن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «الراحمون يرحمهم الله تعالى. ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء». (أخرجه أبو داود والترمذي).
¥