وعن جرير - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يرحم الله من لا يرحم الناس». . (أخرجه الشيخان والترمذي).

وفي رواية لأبي داود والترمذي عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: قال - صلى الله عليه وسلم -: «لا تنزع الرحمة إلا من شقي».

وعن أبي هريرة كذلك. قال: «قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحسن بن علي - رضي الله عنهما - وعنده الأقرع بن حابس. فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحداً! فنظر إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: من لا يرحم لا يُرحم». (أخرجه الشيخان).

ولم يكن - صلى الله عليه وسلم - يقف في تعليمه لأصحابه - رضوان الله عليهم - عند حد الرحمة بالناس. وقد علم أن رحمة ربه وسعت كل شيء. وأن المؤمنين مأمورن أن يتخلقوا بأخلاق الله؛ وأن الإنسان لا يبلغ تمام إنسانيته إلا حين يرحم كل حي تخلقاً بخلق الله سبحانه، وكان تعليمه لهم بالطريقة الموحية التي عهدناها:

عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش، فوجد بئراً، فنزل فيها فشرب، ثم خرج، وإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش. فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني، فنزل البئر، فملأ خفه ماء، ثم أمسكه بفيه حتى رقي، فسقى الكلب. فشكر الله تعالى له فغفر له. قالوا: يا رسول الله وإن لنا في البهائم لأجراً؟ قال: في كل كبد رطبة أجر». (أخرجه مالك والشيخان)

«وفي أخرى: إن امرأة بغياً رأت كلباً في يوم حار يطيف ببئر، قد أدلع (أي أخرج) لسانه من العطش فنزعت له موقها (أي خفها) فغفر لها به».

«وعن عبد الرحمن بن عبدالله عن أبيه - رضي الله عنه - قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر. فرأينا حمرة (طائر) معها فرخان لها فأخذناهما. فجاءت الحمرة تعرّش (أو تفرش) - (أي ترخي جناحيها وتدنو من الأرض) فلما جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:» من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها «. ورأى قرية نمل قد أحرقناها فقال:» من أحرق هذه؟ «قلنا: نحن. قال: إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار». . (أخرجه أبو داود). .

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «قرصت نملة نبياً من الأنبياء. فأمر بقرية النمل فحرقت. فأوحى الله تعالى إليه: أن قرصتك نملة أحرقت أمة من الأمم تسبح؟». . (أخرجه الشيخان).

وهكذا علم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه هدى القرآن. ليتذوقوا رحمة الله من خلال مزاولتهم للرحمة. . أليس أنهم إنما يتراحمون برحمة واحدة من رحمات الله الكثيرة؟!

وبعد فإن استقرار هذه الحقيقة في تصور المسلم لينشىء في حسه وفي حياته وفي خلقه آثاراً عميقة؛ يصعب كذلك تقصيها؛ ولا بد من الاكتفاء بالإشارة السريعة إليها، كي لا نخرج من نطاق الظلال القرآنية، إلى قضية مستقلة!

إن الشعور بهذه الحقيقة على هذا النحو ليسكب في قلب المؤمن الطمأنينة إلى ربه - حتى وهو يمر بفترات الابتلاء بالضراء، التي تزيغ فيها القلوب والأبصار - فهو يستيقن أن الرحمة وراء كل لمحة، وكل حالة، وكل وضع؛ وأن ربه لا يعرضه للابتلاء لأنه تخلى عنه، أو طرده من رحمته. فإن الله لا يطرد من رحمته أحداً يرجوها. إنما يطرد الناس أنفسهم من هذه الرحمة حين يكفرون بالله ويرفضون رحمته ويبعدون عنها!

وهذه الطمأنينة إلى رحمة الله تملأ القلب بالثبات والصبر، وبالرجاء والأمل، وبالهدوء والراحة. . فهو في كنف ودود، يستروح ظلاله، ما دام لا يُبعد عنه في الشرود!

والشعور بهذه الحقيقة على هذا النحو يستجيش في حس المؤمن الحياء من الله. فإن الطمع في المغفرة والرحمة لا يجرّىء على المعصية - كما يتوهم البعض - إنما يستجيش الحياء من الله الغفور الرحيم. والقلب الذي تجرئه الرحمة على المعصية هو قلب لم يتذوق حلاوة الإيمان الحقيقية! لذلك لا أستطيع أن أفهم أو أسلم ما يجري على ألسنة بعض المتصوفة من أنهم يلجون في الذنب ليتذوقوا حلاوة الحلم، أو المغفرة، أو الرحمة. . إن هذا ليس منطق الفطرة السوية في مقابلة الرحمة الإلهية!

كذلك فإن الشعور بهذه الحقيقة على هذا النحو يؤثر تأثيراً قوياً في خلق المؤمن، وهو يعلم أنه مأمور أن يتخلق بأخلاق الله - سبحانه - وهو يرى نفسه مغموراً برحمة الله مع تقصيره وذنبه وخطئه - فيعلمه ذلك كله كيف يرحم، وكيف يعفو، وكيف يغفر. . كما رأينا في تعليم الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه؛ مستمداً تعليمه لهم من هذه الحقيقة الكبيرة. .) ا. هـ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015