وإذا كان هذا شأن التحدي والإعجاز بمكة فإن سورة البقرة المدنية والمبدوءة بالحروف المقطعة لم يأت فيها بجديد في مضمار تناقص التحدي؛ وإنما كرّر الله تعالى فيها ما ذكر آخر مرة بمكة في سورة يونس، ومن الملاحظ أن الآيتين متقاربتين حتى في ألفاظهما وآية البقرة التي تشير إلى التحدي هي قوله تعالى: (فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) أما سورة آل عمران التي افتتحت بقوله تعالى (الم) فقد ذكر العلماء أنها مكملة لمقصود سورة البقرة؛ فسورة البقرة بمثابة إقامة الدليل على الحكم وآل عمران بمثابة رد شبهات الخصوم، فإذا صح ذلك فإن من الملاحظ أن سورة البقرة قد كانت شديدة على أهل الكتاب (اليهود) وسورة آل عمران التي ذكر فيها نصارى نجران قد كانت أخفّ، وإذا ذكر الله التحدي والإعجاز بصورة واضحة كما في البقرة فقد ذكر في آل عمران أنه نزّل القرآن بالحق مصدقا لما بين يديه من جهة وأشار إلى المحكم والمتشابه في هذا الكلام المعجز وحذر من التحريف بالتأويل الباطل في هذا الكتاب الذي لا ريب فيه. ومن الملاحظ أن مجيء القرآن بعد الحروف المقطعة في هاتين السورتين المدنيتين قد اختلف نوعا ما عن مجيء ذلك في السور المكية؛ فالإشارة في السور المكية تكون كالآتي (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ) أو (تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ) أما في البقرة فقد كانت الإشارة إلى الكتاب كله لا أجزائه (ذَلِكَ الْكِتَابُ) وكأنما بدأ هذا الكتاب العظيم يتكامل نزولا بالمدينة، وكذلك الأمر في سورة آل عمران المدنية فقد جاء بالكتاب معرفة: (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ) مما يدل على الكلية أما في السور المكية فقد جاء بالكتاب نكرة (كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ) أو (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ) مما يدل على التبعيض عند النحاة، و كأنني ألمح - من هذه الإشارات ومن خلال اختلاف المجتمعين المكي والمدني - انقضاء بيان الأمور الأساسية نحو التوحيد الذي هو الركيزة الأساسية لهذا الدين و إثبات النبوة، وهذه الأمور الأساسية لا تغفلها السور المدنية لأهميتها، و لكن لا تركز عليها ذلك التركيز الذي كان في تلك السور المكية.
وإذا كانت دلالة هذه الحروف المقطّعة على الإعجاز مستنبطة من إتيان ذكر القرآن بعدها عند الرازي والمبرد والقرطبي والفراء وقطرب والزمحشري وابن تيمية وابن كثير وغيرهم من العلماء؛ فإن هذه الحروف قد جاءت في بعض المواضع وليس لذكر القرآن دليل واضح بعدها
وذلك نحو قوله: (كهيعص ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا) في سورة مريم
وقوله: (الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) في سورة العنكبوت
وقوله: (الم غُلِبَتِ الرُّومُ) في سورة الروم
وقوله (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ) في سورة القلم
. ولكن الملاحظ أن السور التي افتتحت بهذه الحروف تضمنت ذكر القرآن بصورتين: إما مباشرة بعد هذه الحروف كما هو في الغالب، أو بعدها بفاصل؛ ويبدو ذلك واضحا في سورة آل عمران في قوله: (الم اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ) أما في سورة مريم فقد قال تعالى بعد هذه الحروف: (ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ) ثم ذكر قصة زكريا حتى إذا فرغ منها قال: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ) وذكر بعدها قصة مريم ولما فرغ منها قال: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ) وذكر بعدها قصة إبراهيم ثم كرر الأمر نفسه مع موسى وإسماعيل وإدريس،وكل الجمل التي يقول فيه (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ) معطوفة على قوله: (ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ). ثم ختم السورة - بعد تناوله لمنكري البعث وبيان أحوالهم يوم القيامة وأحوال المتقين - بقوله: (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا) أي يسرنا القرآن، ولذلك فإن معنى: (ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ) هو: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ)، وليس ذلك فحسب؛ بل تناول العلماء رفع كلمة "ذكر " في قوله (كهيعص ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا) وبماذا رفعت؟، ويبدو واضحا أنها رفعت بإضمار مبتدإ والمعنى: هذا المتلو من القرآن ذكر رحمة
¥