ربك وبذلك تنتظم سورة مريم في قاعدة أولئك العلماء المحققين. أما سورة العنكبوت فقد جئ فيها بهذه الحروف وذُكرت فيها بعض أنباء الغيب الماضية؛ نحو قصة إبراهيم ولوط وعاد وثمود وقارون وفرعون وهامان، والملاحظ أنه عند ذكر كل واحد من هولاء في هذه السورة يأتي باسمه منصوبا كما في قوله: (وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ) وقوله (وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ) وهذه الأعلام منصوبة – كما يقول النحاة – بفعل محذوف تقديره (واذكر) وهذا معناه كما في سورة مريم: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ) والملاحظ أن الأعلام الأخرى قد جاءت كذلك كما في قوله: (وعَادًا وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم)؛ يقول القرطبي: (المعنى: وأذكر عادا إذ أرسلنا إليهم هودا فكذبوه فأهلكناهم، وثمودا أيضا أرسلنا إليهم صالحا فكذبوه فأهلكناهم) ومثله قوله: (وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءهُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ)، وليس ذلك فحسب بل ذُكر في هذه السورة القرآن وإعجازه بصورة واضحة في قوله: (وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاء مَن يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ) وقد تناول في هذه الآيات إنزال هذا القرآن المعجز العظيم على أمي، وكونه لا يتبدل ولا يتغير؛ وذلك بخلاف الكتب السابقة؛ فهو محفوظ بالإعجاز ومحفوظ في صدور الأمة لا قراطيسها بحيث (لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ) ولا ينمحي، كما تناول في هذه الآية أيضا كون القرآن دلالة كافية على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ولا تحتاج إلى مزيد فهو يقوم مقام إحياء الموتى وإبراء المرضى وقلب العصا حية وفلق البحر بل ويفوق هذه المعجزات الحسية. أما في سورة الروم فذكر أمرا غيبيا مستقبليا هو "تغلُّب الفرس على الروم وتغلُّب الروم على الفرس " يقول القرطبي: (هذه كلها أخبار عن الغيوب التي لا يقف عليها إلا رب العالمين، أو من أوقفه عليها رب العالمين، فدلّ على أن الله تعالى قد أوقف عليها رسوله لتكون دلالة على صدقه) ومعنى ذلك أن هذه من المعجزات الحسية التي تدل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ومن الملاحظ في سورة الروم هذه أن آيات الله المذكورة فيها آيات كونية حسية، وقد نبه في بداية هذه السورة على هذا الجانب الحسي بقوله: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) وعقّب ذلك بالتفكر في النفس والسماء والأرض والسير والنظر ثم ذكر هذه الآيات الكونية الحسية: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ)، (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا)، (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ) َ، (ومِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ)، (وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا)، (وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ)، (وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُم مِّن رَّحْمَتِهِ) ومن الملاحظ أنه لم يتعرض لذكر القرآن إلا عند ختام السورة (وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِن جِئْتَهُم بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ). أما في سورة القلم فالإشارة إلى القرآن واضحة؛ وذلك للآتي:
- اتهام المشركين له صلى الله عليه وسلم بالجنون كان لأجل نزول القرآن عليه، وقوله تعالى: (مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) - كما ذكر المفسرون - كان جوابا لقولهم: (وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) والذكر كما هو معلوم: القرآن، فالأمر ليس جنونا وإنما هي آيات الكتاب وقرآن مبين
- هذا المعنى السابق تعضده الآيات الأخيرة في سورة القلم هذه: (وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ)
- يعضد هذا المعنى أيضا قوله في أول السورة: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)، وقد ذكر العلماء أن خلق النبي صلى الله عليه وسلم هو القرآن؛ وذلك لشدة التطابق؛ فعن سعد بن هشام: قال: أتيت عائشة أم المؤمنين فقلت لها: أخبريني بخلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: كان خلقه القرآن. أما تقرأ: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)
وبهذا تنتظم كل السور المفتتحة بالحروف في قاعدة أولئك العلماء المحققين.
¥