أما إذا خلا هذا النوع من مثل هذه الأمور فلا عذر لنا في عدم قبوله، فأصحاب الأفكار السائغة في ذلك يراعون تلك الأمور حتى لا تجهض أفكارهم، وقليل ما هم
أما عن الآية المدثر؛ فيمكن الرد على رشاد خليفة بدون طريقته الحسابية؛ وذلك كالآتي:
- الاستناد على طول آية المدثر الرد عليه أمر بديهي؛ إذ لها نظائر من القرآن كثيرة فآيات القرآن ليست متساوية الكلمات أو الحروف، وآية الدين مثلا في سورة البقرة تحتل صفحة كاملة وهي حوالي" 129" كلمة بينما هنالك آية في السورة نفسها فيها كلمة واحدة "الم" وقوله " ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ" سبع كلمات ومثل ذلك في القرآن كثير؛ إذ أن آياته ليست كشطري البيت الشعري متساوية المساحة والإيقاعات والأوزان
- هذه الآية شديدة الارتباط بما قبلها وهو أنه تعالى لما ذكر "سقر" وأن خزنتها تسعة عشر بـ"لا تمييز " فتن بهذا العدد الكفار واستهزؤوا وقالوا إنه قليل فجاءت هذه الآية "وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً" أي أنهم ملائكة غلاظ شداد وليسوا هم من جنس المعذبين فيرقوا لهم بل هم أقوى الخلق، وقد تكرر عليكم أيها الكفار ذكرهم وعلمتم أوصافهم وأنهم ليسوا كالبشر بل الواحد منهم يصيح صيحة واحدة فيهلك مدينة كاملة كما وقع لثمود، ثم قال "وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ" أي هم كثير جدا ولو شاء لجعلهم على النار بعدد لا يحصى، وقد قسم الله تعالى أحوال الناس إزاء ذلك:فالكفار لجهالتهم بذلك ينكرونه أما أهل الكتاب لما عندهم من العلم فيتيقنون بأنه الحق لتمام المطابقة لما عندهم أما المؤمنون فيزدادون إيمانا وأما الذي في قلوبهم مرض فيتحيرون
- هذه الآية شديدة الارتباط بما بعدها أيضا وهو قوله تعالى "وما هي إِلاّ ذِكرَى للبشر" وهذا متصل بوصف سقر، أي: ما سقر وصفتها إلاّ تذكرة للبشر؛ لينزجروا. ثم أقسم الله تعالى قسما شديدا ثم قال عن سقر "إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ" أي البلايا العظام
فهل يمكن بعد هذا الارتباط أن يقال إن تلك الآية ليست من السورة؟!.وإذا وجد مع ذلك دليل عددي مقبول فنعما هو ولا إشكال.
أما آيات التوبة " لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ" فهي شديد الارتباط بما قبلها فقد تحدثت الآيات قبلها عن القتال
وبينت أحوال الناس إزاءه؛ فمنهم من وفقه الله تعالى وهم المؤمنون الصادقون، ولما كان المنافقون يكرهون ذلك وكان انصرافهم دالاً على الكراهة - عرّفهم أن الأمر كان يقتضي توفر دواعيهم على محبة هذا الداعي والبعد عما يفعلونه به من الانصراف عنه؛ ولهذا قال: " لقد جاءكم رسول" ولما كان الرسول يجب إكرامه والوقوف في خدمته لأجل مرسله - شرع يذكر لهم من أوصافه ما يقتضي لهم مزيد إكرامه فقال: "من أنفسكم " وذلك أقرب إلى الألفة وأسرع إلى فهم الحجة وأبعد من اللجاجة وقوله "عزيز " أي شديد جداً عليه ما عنتم، والعنت: لحاق الأذى الذي يضيق الصدر به "حريص " أي بليغ الحرص على نفعكم: "بالمؤمنين رءوف رحيم " أي شديد الرحمة لمن له منه عاطفة وصلة، وهو اللائق بشريف منصبه وعظيم خلقه، وقد خص الله المؤمنين بالذكر لأنهم المنتفعون به، فالمنة عليهم أعظم.
أما إذا عدنا لآية سورة المدثر والرقم 19 تجد بعض أصحاب الإعجاز العددي يقولون: هو تحد للكفار وبعضهم يربطون ذلك بالبسملة المكونة من 19 حرفا ويقول بعضهم إن سورة الفاتحة بدون البسملة هو 6 وإذا ضرب هذا العدد في الرقم 19 كان الناتج هو 114 وهو عدد سور القرآن وأن عدد آيات سورة الناس هو 6 فلو ضرب كذلك في 19 لكان الناتج 114. أي أن أول القرآن وآخره يحدد عدد سوره
وهذا عجيب! ما علاقة ذلك بالبسملة وما المسوغ لهذا الربط
وما مسوغ عملية الضرب من أساسها
ويقول بعضهم إن أول ما نزل من القرآن قوله تعالى " اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. إقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم " وهذه الآيات الخمس مكونة من 19 كلمة. وإن آخر ما نزل من القرآن هو قوله تعالى " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا " (3 المائدة) وعدد حروف العبارة " ورضيت لكم الإسلام دينا " يبلغ 19 حرفا.
فلماذا عبارة " ورضيت لكم الإسلام دينا " دون بقية الآية
وكذلك قوله تعالى " الدين عند الله الإسلام " يبلغ 19 حرفا وهي الآية 19 من سورة آل عمران مع إغفال كلمة "إن" بل وبقية الآية
ويذهب بعضهم إلى أن لفظ السميع تكرر 19 مرة والحكيم تكرر 38 مرة ويساوي 19× 2 و الرحمن 57 مرة ويساوي 19 × 3 و الرحيم تكرر 114 مرة ويساوي 19 × 6.
ما دلالة كل تلك العمليات فلو كانت الحكيم مكان الرحيم أو السميع أو العكس هل كانت الدلالة تختلف؟
.وبعضهم يحاول اكتشاف الغيبيات المستقبلية من خلال هذه الأعمال الحسابية
فحددوا بذلك سنة زوال دولة إسرائيل بل وحددوا سنة القيامة نفسها
وحدد بعضهم حوادث 11 سبتمبر من داخل سورة التوبة فحددوا اليوم والشهر بل وأرقام الرحلات الجوية
فإذا هذه من معطيات الإعجاز العددي فقل لي أي عاقل من الممكن أن يثق في محاولات كل الناس الذين يقولون في القرآن ما يشاءون كأنما القرآن عندهم نوعا من الطلاسم والألغاز والتنجيم ونحوه
فكل هذه الأمور فضلا عن أن رشاد خليفة - صاحب تلك الدعوى التي تحاول الرد عليها – هو المؤسس لهذا الاتجاه قد أدعى بأنه رسول – كل تلك الأمور قد تركت انطباعاً سيئاً حول هذا النوع من الدراسات
فالواجب الواجب الآن هو تحديد الضوابط والمعايير في تلك الدراسات وهو أمر يقع على عاتقكم وإلا ازور الناس عنه وكرهوا الخوض فيه بل واتهموا عقول المتحدثين فيه
¥