ولما كان الأمر كذلك فإن الغيب الذي أخبر به القرآن وكان به معجزاً مفهوم له معناه ودلالته التي تحدده عند النّظّام؛ يقول الخياط المعتزلي: (اعلم – علمك الله الخير – أن القرآن حجة للنبي صلى الله عليه وسلم على نبوته عند إبراهيم (النّظّام) من غير وجه فأحدها ما فيه من الإخبار عن الغيوب؛ مثل:

قوله: (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليستخلفنّهم في الأرض)

ومثل قوله: (قل للمخلفين من الأعراب ستدّعون إلى قوما أولي بأس شديد)

ومثل قوله: (ألم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون)

وقوله: ? أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ?

ثم قال ?ولا يتمنونه أبداً بما قدمت أيديهم فما تمناه منهم أحد ?

ومثل إخباره بما في نفوس قوم وبما سيقولونه و هذا وما أشبهه في القرآن كثير)

ويمكن تصنيف هذه الآيات على النحو الآتي:

1/مستقبليات:

أ-التمكين والاستخلاف للمؤمنين

ب-قتال الأعراب المتخلفين لبنى حنيفة في اليمامة والفرس والروم.

ج-غلبة الروم

2/ نفسانيات:

أ-امتناع أهل الكتاب عن المباهلة

ب-عدم تمني اليهود للموت

ج-الإخبار عما في نفوس قوم (ولم يمثل النّظّام بآية)

د-ما سيقوله قوم (ولم يمثل أيضاً)

وقد عدّ كثير من العلماء هذا الوجه الذي يتضمن الأخبار وجها صحيحا للإعجاز؛ وليس ذلك فحسب بل قسموه إلى أنواع منها ما هو ماض وما هو مستقبل

أنواع الصرفة عن القائلين بها

للصرفة في ذاتها - داخل كتب الإعجاز القرآني- مفهومان أساسيان هما:

أ- رفع استطاعة العرب عن معارضة القرآن وأخذ علوم كانت لديهم لا يستطيعون المعارضة بغيرها، و هذه الحالة مثل أن يتحدى نبي قومه بأمر كان متاحاً لديهم ومقدوراً عليه عندهم - كوضع اليد على الرأس مثلاً-، ثم يدعي أن هذه آيته المعجزة الدالة على نبوته، حيث لا يستطيعها أحد سواه، ويحاول قومه فعل هذا الأمر المعتاد فلا يستطيعون.

ب- صرف الهمم عن المعارضة مع توفر الدواعي وشدة الحاجة؛ إذ يصرفهم الله عنها صرفاً ويشغلهم عنها بأمور أخرى، ومع أن المعارضة ممكنة وهي في مقدورهم؛ لكنهم لا يفعلونها ولا ينتبهون إليها، وفي بعض آراء القائلين بالصّرفة أنهم يجربون المعارضة ويتقاصرون عن بلوغ درجة القرآن في البلاغة؛ فينصرفون عن المعارضة لعلمهم آتها غير ممكنة، وهذا الأخير قول بعض من جمع بين الصّرفة والإعجاز البلاغي.

وقد تبع النّظّام في القول بالصّرفة نفر من العلماء خدموا الإعجاز البلاغي للقرآن؛ واهتموا به اهتماما كبيراُ؛ ومن هؤلاء على سبيل المثال: الجاحظ والرمانى والشريف المرتضى وابن سنان الخفاجي

والحق أن القول بالصّرفة عند جميع هؤلاء لم يكن على شاكلة واحدة، ولم يكن وقع الحافر على الحافر كما كان عند النّظّام، بل إنهم قالوا بالصّرفة وجمعوا بينها وبين الإعجاز البلاغي، وقد يبدو هذا الموقف غريباً متناقضاً، إذ أن الصّرفة عند النّظّام نفسه ما كانت إلا تبريراً لإنكاره الإعجاز البلاغي؛ حيث أن القرآن عنده ليس بمعجز في البلاغة والفصاحة؛ ولما لم يأت أحد بمثله في البلاغة والفصاحة فقد اضطر النّظّام اضطراراً إلى القول بأن الله صرف الناس عن ذلك،و لأجل ذلك فلا حاجةً لمن أقر بالإعجاز البلاغي للقول بالصّرفة أصلاً.

ولكن لما كانت الصّرفة عند المعتزلة من أفكار شيخهم القديم؛ ولما كانت أفكارهم تخضع باستمرار للتصحيح والتصويب؛ وذلك لغلبة الجانب العقلي؛ ولما كانت أصولهم الكلية نفسها في أول أمرها غير نضيجة على أيام واصل بن عطاء - كما يقول الشهرستاني - ثم أكسبوها نضجاً، فإن الصّرفة - وهي من الجزئيات وليست من الأصول عندهم - قد أكسبت وجوهاً مقبولة وأزيلت على مرّ الأيام – عنها الوجوه الشنيعة وأفرغت من محتواها إفراغاً؛ ولذلك كان مبرر الإمام الجاحظ للقول بالصّرفة - هو منع الشغب؛ بينما كان مبرراً شيخه النّظّام غير ذلك؛ يقول الجاحظ - بعد أن ذكر عجز العرب عن الإتيان بمثل القرآن -: (إن الله صرفهم عن المعارضة للقرآن بعد أن تحداهم الرسول بنظمه؛ ولذلك لم تجد أحداً طمع فيه؛ ولو طمع لتكلّفه؛ ولو تكلّف بعضهم ذلك فجاء بأمر فيه أدنى شبهة؛لعظمت القصة على الأعراب؛ وأشباه الأعراب؛ والنساء؛ وأشباه النساء؛ ولألقى ذلك للمسلمين عملا؛ ولطالبوا المحاكمة والتراضي

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015