؛ ولكثر القيل والقال).

ولما كان الأمر كما ذكرنا؛ فإن الجاحظ قد قبل الصّرفة بوجه؛ ورفض إنكار شيخه للجانب البلاغي، ولذلك كان عجز البشر عن معارضة القرآن عنده ضربين: عجز طبيعي مرده علو طبقة القرآن فى البلاغة، وعجز عارض مردّه الصّرفة ومنع الشغب؛ يقول: (وفرق بين نظم القرآن وتأليفه ونظم سائر الكلام وتأليفه، وليس يعرف فروق النظر واختلاف البحث إلا من عرف … العجز العارض الذي يجوز ارتفاعه من العجز الذي هو صفة في الذات، فإذا عرف صنوف التأليف عرف مباينة نظم القرآن لسائر الكلام، ثم لم يكتف بذلك؛ حتى يعرف عجزه وعجز أمثاله، وأن حكم البشر حكم واحد في العجز الطبيعي وإن تفاوتوا في العجز العارض)

ولما كان الأمر على الوجه الذي ذكرنا فإنه يتبين أن الصّرفة ليست على هيئة واحدة عند القائلين بها، وعلى اختلاف أنواع الوجوه فإنه يمكن تقسيم الصّرفة عندهم على النحو الآتي:

1 - صرفه ينكر أصحابها الإعجاز البلاغي للقرآن، ويميلون إلى أن الإعجاز في الإخبار بالغيب، ومن أنصارها النّظّام وابن صبيح المردار وجعفر بن مبشر الثقفي وجعفر بن حرب الهمداني وهشام الفوطي وعباد بن سليمان.

2 - صرفة يجمع أصحابها بين الإعجاز البلاغي والعجز العارض (الصرفة) ومن أنصارها: الجاحظ والرماني والشريف المرتضي وابن سنان الخفاجي.

ويبدو أن أصحاب الصّرفة الأخيرة لم يكونوا راضين بإنكار النّظّام للإعجاز الأسلوبي؛ ولذلك قسمنا الصّرفة وأنصارها على الوجه الذي ذكرناه، وليس أدل على وجود هذين النوعيين من رد الجاحظ على الجانب الضعيف من صرفة النّظّام؛ يقول – في كتابه الذي يحتجّ فيه لنظم القرآن-: ( .. فلم أدع فيه مسألة لأصحاب النّظّام ولمن نجم بعد النّظّام؛ ممن يزعم أن القرآن حق وليس تأليف بحجة؛وأنه تنزيل وليس ببرهان ودلالة)

ولا شك أن رد الجاحظ على نظرية النّظّام على الوجه الذي ذكرناه، مع قوله بالصّرفة أيضاً؛ يؤكد أن الصّرفة عنده غير تلك التي عند النّظّام؛ وإن اشتركا في كون البشر مصروفين عن معارضة القرآن، وإذا أردنا دليلاً بينا على هذه القضية التي تخبط فيها الباحثون أيما تخبط – فليس أدل من قول القاضي عبد الجبار الذي يؤكد – صراحة - وجود خلاف جوهري بين القائلين بالصّرفة؛ يقول: (واعلم أن الخلاف في هذا الباب أنا نقول: إن دواعيهم انصرفت عن المعارضة لعلمهم بأنها غير ممكنة …. وهم يقولون إن دواعيهم انصرفت مع التأتي؛ فلأجل انصراف دواعيهم لم يأتوا بالمعارضة مع كونها ممكنة، وهذا موضع الخلاف،وعلى المذهبين جميعاً أن دواعيهم قد انصرفت عن المعارضة)

ويقول الإمام القرطبي المفسر (واختلف من قال بهذه الصّرفة على قولين: أحدهما أنهم صرفوا عن القدرة عليه ولو تعرضوا له لعجزوا عنه الثاني أنهم صرفوا عن التعرض له مع كونه في مقدورهم ولو تعرضوا له لجاز أن يقدروا عليه)

ولما كان الأمر على الوجه الذي ذكرناه - فإنه لا وجاهة لرأي الدكتور منير سلطان والدكتور الحاجرى اللذين أسبغا معنى صرفة الجاحظ على صرفة أستاذه النّظّام، فخرجا بنتيجة مفادها أن صرفة النّظّام كصرفة الجاحظ ولكن الأشاعرة قد نقلوا إلينا صرفة النّظّام مشوهة تشويهاً شديداً؛ وحرفوها للنيل منه.

وإذا لم يكن لرأي الدكتور سلطان والحاجري – في بحثيهما القيمين- من وجاهة؛فكذلك رأي الأستاذ مصطفي صادق الرافعي والدكتور هاشم محمّد هاشم اللذين ذهبا إلى أن الجاحظ قد وقع في الاضطراب والتناقض؛ يقول الرافعى: (رأي الجاحظ كرأي أهل العربية وهو: أن القرآن في الدرجة العليا من البلاغة التي لم يعهد مثلها، غير أن الرجل كثير الاضطراب … ولذلك لم يسلم هو أيضاً من القول بالصّرفة؛ وإن كان أخفاها وأومأ إليها عن عرض؛ فقد سرد في موضع من كتاب (الحيوان) طائفة من أنواع العجز؛ وردها في العلة إلى أن الله صرف أوهام العرب وصرف نفوسهم عن معارضة القرآن، بعد أن تحداهم الرسول بنظمه، وقد يكون استرسل بهذه العبارة في نفسه من أثر أستاذه، وهو شئ ينزل على حكم الملابسة ويعتري أكثر الناس إلا من تنبّه له أو نبّه عليه، أو قد يكون ناقلاً ولا ندري)

والحق أن الجاحظ لم يضطرب أو يخف قوله بالصّرفة؛ بدليل أنه ذكرها في غير ما موضع صراحة، ويبدو أن خوفه من هجوم الآخرين على المعتزلة هو الذي دفعه إلى القول بالصّرفة؛مفرغاً إياها من معناها القبيح؛ ملبساً إياها معنى مقبولاً نوعاً ما.

ـ[نزار حمادي]ــــــــ[26 Feb 2009, 04:25 م]ـ

ابن كثير قبل الصّرفة بتحفّظ شديد وعدّها –مع كونها غير مقبولة لديه-وجها يصلح للدفاع به عن القرآن وإعجازه وربما كان ناقلا لهذا القول فحسب؛ يقول" وقد قرّر بعض المتكلّمين الإعجاز بطريق يشمل قول أهل السنة وقول المعتزلة في الصّرفة؛ فقال إن كان هذا القرآن معجزا في نفسه لا يستطيع البشر الإتيان بمثله ولا في قواهم معارضته فقد حصل المدعى؛ وهو المطلوب، وإن كان في إمكانهم معارضته بمثله ولم يفعلوا ذلك - مع شدة عداوتهم له -كان ذلك دليلا على أنه من عند الله؛ لصرفه إياهم عن معارضته مع قدراتهم على ذلك

ذكر هذه الحجة لا يقصد بها قبول القول بالصرفة، بل المراد بها بيان إعجاز القرآن مطلقا، وما نقله ابن كثير ناسبا إياه لبعض المتكلمين نجده عن الفخر الرازي في المعالم الدينية حيث قال:

إِنَّ مُحَمَّدًا صلى تَحَدَّى العَالَمِينَ بِالقُرْآنِ، فَهَذَا القُرْآنُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ بَلَغَ إِلَى حَدِّ الإِعْجَازِ أَوْ مَا كَانَ كَذَلِكَ. فَإِنْ كَانَ بَالِغاً إِلَى حَدِّ الإِعْجَازِ فَقَدْ حَصَلَ المَقْصُودُ. وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ مَا كَانَ بَالِغاً إِلَى حَدِّ الإِعْجَازِ. فَحِينَئِذٍ: كَانَتْ مُعَارَضَتُهُ مُمْكِنَةً. وَمَعَ القُدْرَةِ عَلَى المُعَارَضَةِ وَحُصُولِ مَا يُوجِبُ الرَّغْبَةَ في الإِتْيَانِ بِالمُعَارَضَةِ يَكُونُ تَرْكُ المُعَارَضَةِ مِنْ خَوَارِقِ العَادَاتِ، فَيَكُونُ مُعْجِزًا. فَثَبَتَ ظُهُورُ المُعْجِزَةِ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم عَلَى كِلَى التَّقْدِيرَيْنِ. (معالم أصول الدين)

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015