صلى الله عليه وسلم إلى العصور الخيرة .. ومن هنا فطبيعة القرآن المكي ليس هي (الوعظ!!) وإنما هي (الخلع) من الاعتقاد الباطل، ومن ثم (الغرس) في الاعتقاد الحق، وذلك باتباع سلوك الدعوة بالآيات البينات التي لا يجادل فيها إلا مكابر .. وهنا تكون القضية قضية عناد وتكذيب لا قضية عدم قناعة وتشكيك .. والآيات في هذا المعنى كثيرة جدا في كتاب الله تعالى وليس هو مكان بيان تلك القضية الدعوية.

أركان التربية

حينما ننظر إلى السيرة النبوية وإلى أسباب النزول .. لا سيما لو كانت قراءة شاملة كدراسة لمعاني الآيات وما نزلت به وما ترجمه الصحابة من عمل لا كدراسة تخصصة أحادية الجانب .. حينما ننظر هنا إلى السيرة وإلى أسباب النزول بتلك المنهجية يتبين لنا ركنا التربية .. ومن هنا أستطيع أن أعلن عن ركني التربية ـ في نظري ـ وهو ما يدل عليه منهج القرآن التربوي، فأقول:

التربية = حدث + خطاب

وهذا هو مصداق ما يذكره بعض الدعاة من كون التربية (معايشة) و (سلوك) وليست مجرد أوامر لفظية وليست محددة بفترة زمانية تحت اعتبار من الاعتبارات الشائعة ..

ولنحاول ـ باختصار ـ أن نلقي تصورا على الواقع الذي يجري نتيجة اختلال ركن من الركنين:

حدث بلا خطاب: ينتج عنه عماء وخبط عشواء وشعور بالضياع لدى الشباب المتدين ـ خاصة حديثي العهد بالتدين ـ وهذا أثره مشاهد معهود فلا يفتقر إلى بياني.

خطاب بلا اعتبار الحدث: فهذا هو الجاري في المحاولات التربوية المعاصرة من قبل جمهور الدعاة ـ الذين نحسبهم على خير وإخلاص والله حسيبهم ـ فمشكلة الدعاة هي (ضخ) التوجيهات في غير محالها والبعد عن غير عمد ـ وفي أحيان كثيرة عن عمد ـ عن قوالب تلك التوجيهات من الأحداث الحية المعاصرة .. بحجة البعد عن السياسة أو المشاكل أو استفزاز البعض ممن لهم علينا قدرة .. إلخ وهذه قضية ليس هذا محل تفصيلها وإنما المقصود هو تصور الأثر الواقعي لاختلال هذا الركن التربوي.

تربويات واقعية في سور مكية

الفاتحة هي في أول المصحف .. ولكنها الخامسة من حيث النزول .. لماذا نزلت الفاتحة كسورة خامسة؟ ما القضية؟

لقد سبقت الإشارة إلى أن القرآن منهج تربوي، وكان يتنزل للتربية بالواقائع والأحداث .. ومن هنا نواجه قضيتين إذا أردنا أن نتناول سورة من السور بدروسها التربوية:

أ ـ حادثة نزول السورة (وذلك لتصور الدرس التربوي الواقعي للتوجيه بالسورة)

ب ـ السياق قبل السورة (وذلك لتصور دور السورة كمرحلة تربوية ضمن سلسلة وليست كوحدة منفصلة انفصالا تاما)

فإن فعلنا ذلك مع كافة السو رالمكية .. ثم السور المدنية .. فاستوفينا سور القرآن، استطعنا هنا ـ بحول الله توفيقه ـ وضع تصور تطبيقي كامل للتربية السلفية (الحقيقية) على منهج الله الذي طبقه النبي صلى الله عليه وسلم مع جيل الصحابة وطبق من ثم في القرون الخيرة.

وسوف نتناول بتلك المنهجية ـ منهجية المحكات التربوية - سورا ثلاث مرتبة من القرآن المكي، هي سور/ الفاتحة – المسد – التكوير .. فأقول مستعينا بالله تعالى:

لو أني اخترت البداءة بسورة الفاتحة فإن هذه السورة لها من الفضل والكلام حولها ما لا يحتاج إلى أن يعاد هنا، وأفضل من تكلم عليها ـ في حدود معرفتي ـ هو الإمام ابن القيم في مدارج السالكين، فالراغب فيما حولها يمكنه مراجعة هذا السفر العظيم .. وإنما يعنيني هنا الوقفة التربوية الحركية من تلك السورة!

يبدو ـ لأول وهلة ـ أنها تحوي ثناءا على الله ودعاءا له وأنها يصعب أن نستخرج منها تربويات يمكن تطبيقها مباشرة في عالم الواقع وتحديدا (المحكات) .. ولكن أقول: لو طبقنا عنصري الكشف عن حركيات السورة لتوصلنا إلى الحركة التربوية منها .. وهذا نسلكه إن شاء الله تعالى مع السور الثلاث مراعين عنصري الكشف وهما: سبب النزول والسياق .. وهذا يجرنا إلى تغيير منهجنا في التناول .. حيث لن نتناول سورة سورة .. وإنما سنبدأ بالحركة التربوية من أول ما نزل من القرآن المكي فننتهي إلى السور الثلاث محل البحث .. فإننا لن نتصور الحركة التربوية إلا إن تصورنا وحدة الحركة كاملة. والله تعالى المستعان وعليه التكلان.

التربية القرآنية .. بناء المؤمن من العلق إلى التكوير

سورة العلق .. البدء باسترداد الإنسان إنسانيته!

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015