حينما ننظر إلى كتاب الله تعالى نجده الكتاب الوحيد من الكتب السماوية الذي تنزل منجما ـ مفرقا ـ بحسب الحوادث والوقائع .. فلم ينزل كتابا واحدا يطبق المسلمون ما يمكنهم تطبيقه منه ويؤجلون الباقي .. وهذه قاعدة لابد أن ندركها من طبيعة ديننا ـ الإسلام ـ إنه ليست لدينا نظرية للنظرية .. ليست لدينا أفكارا لمجرد التفكير الذهني دون التحقيق، ولو كان ذلك من طبيعة الدين لتنزلت آيات للتفكر المجرد .. بل إن ما حواه قرآنا من آيات التفكر القلبي والذهني إنما هو كذلك محاط بإطار من الواقعية من خلال سبب النزول والواقعة التي نزل بها ولأجل التوجيه بها .. من هنا .. ومن خلال التصور الصحيح لهذه الطبيعة .. نستطيع أن نضع أيدينا على الكنز الحقيقي للتربية .. إنه القرآن .. لا بحرفيته البحتة أو ترتيله المجرد .. وإنما كخطاب توجيه يتنزل بحسب المرحلة والحدث والواقعة ليرشد أمة تتحرك به فعلا ..
من هنا .. هنا فقط .. اكتسبت قناعتي ويقيني بصحة المنهج الذي لابد وأن يتبع من بين كل تلك المناهج التي تعج بها الساحة الدعوية والتي هي لا تتعدى (طرقا) للمشايخ، بل لا يندرج أغلبها ـ ولو نظريا ـ تحت هذا المفهوم التربوي الذي تربى عليه الصحابة رضي الله عنهم .. نعم، إن منهج الله في تربية عبيده واضح .. ولا يقولن قائل إنه واضح دون تطبيقه .. بل هو واضح تمام الوضوح .. وعلى المؤمن المستقين الذي يملك أدنى درجة من العقل أن يكون على يقين من ذلك المنهج، ولا يقبل بالدخول في جدالات ومهاترات تشكيكية حوله .. فهي حلقة مفرغة من الفتن لا تنتهي .. لا تنتهي إلا بأن يقطعها الحسم والعمل ..
أما المحكات في تطبيق هذه المنهجية في أرض الواقع الآني .. فلن ننتظر كثيرا حتى يتمخض عنها الذهن .. إنما لدينا مفهوم، وهو حتمية البدء والتحرك .. فالمحكات تتبين لنا حين النزول إليها بالفعل .. ويكون تعاملنا معها حين تولدها ومواجهتنا لها .. فالقضية أن .. حتمية التحرك والعمل بالمنهج الرباني .. أمر محسوم ..
من هنا .. كانت الانطلاقة بدراسة هذا المنهج و محوره الخطابي .. وأبرز ما في هذا المحور هو قضية التقسيم المكاني والزماني لتنزلات القرآن .. وليس هنا موضع التفصيل العلمي في تلك القضية؛ فإن الغاية هي تناول دراسات مختصرة نعكس من خلالها الطبيعة التحركية الواقعية لخطاب الله تعالى لنا بهذا القرآن .. وفي الجزئية التي سنتناولها بالدراسة يكفينا ما لدى القارئ الكريم من تصور عام حول القرآن المكي وطبيعته التربوية، وكذلك ضابطه ـ بغض النظر عن النقاشات العلمية في هذا الضابط أهو المكاني أم الزماني ـ فإن الغرض يتحقق بالتصور العام للقرآن المكي وذلك في السور الثلاث التي سنتناولها باستخراج ما تعكسه من منهج تربوي واقعي حركي يتحتم أن نطبقه في عصرنا كما طبقه الجيل الأول فكان من حاله ما كان مما لا يحلم به مسلموا اليوم.
القرآن المكي .. هو نقطة الانطلاق الواقعي للمربين
نظرة مختلفة!
القرآن المكي تنزل في 13 عاما، كان دوره هو التربية العقيدية الواقعية للمؤمنين .. الجمهور يعبر عن طبيعة القرآن المكي بأنه هو الرقائق والمواعظ والخطاب الرقيق .. ولكني ـ محمد رشيد ـ يشهد الله سبحانه أرى الأمر مختلفا واقعا حينما أقرأ القرآن المكي .. إنه يحمل سمة الحسم والبت والتهديد والهول والبطش والسرعة!
{تبت يدا أبي لهب وتب}
{قتل أصحاب الأخدود* النار ذات الوقود* إذا هم عليها قعود}
{أرأيت الذي يكذب بالدين}
وحسبكم سورتي الأنعام والأعراف!
إن الوعظ في الدين لا ينبغي أن نحاكمه أو نقايسه على ما نعرفه من خلفيات كونها الواقع المريض الهزيل التوظيفي .. حتى نقول إن القرآن المكي هو وعظ ـ بالمعنى المتبادر عرفاـ!! إن القرآن المكي خلاف ذلك تماما .. إنه يبتر بترا ويحسم حسما ويجزم جزما في قضايا الاعتقاد .. وكما أقول دائما: إن التربية التي تعني الأخذ بالتدرج والهويني والتدريب هي ـ بديهة ـ محلها الأعمال والجوارح، لا الاعتقاد والتسليم بمقتضايته .. فالطبيعة هنا تختلف تماما .. فهي ـ من بدايتهاـ إما يمين وإما يسار .. إما أبيض وإما أسود .. نعم هناك السلوك الحسن والحكمة في الدعوة .. أما مادة الدعوة ذاتها فلا شأن لها سوى البت والقطع .. وهذا بارز تمام البروز في آيات الله تعالى وأحاديث نبيه صلى الله عليه وسلم وسلوك الدعوة المضطرد من لدن النبي
¥