ولهذا فقد اتضح أن جواز رواية الإسرائيليات إنما كان بشروط وهي: أن تأتي من خلال القرآن أو السنة أو أن تورد في إطار النقد والدراسات المقارنة أو في إطار الدعوة والمناظرة لبيان صدق الحقائق الإسلامية، أما أن تورد للاعتضاد والاعتماد في تفسير القرآن فهذا أمر فيه نظر، إلا أن كثيراً من العلماء فهموا من جواز الرواية عن بني إسرائيل أن هذا الجواز يختلف من معنى لآخر؛ فهو لا يتعلق بالأحكام لأن تلك الأحكام الواردة في كتب بني إسرائيل منسوخة بأحكام الإسلام، ولا يتعلق هذا الجواز بالعقيدة أيضا لأنها الأساس الذي يبنى عليه الدين فلا يمكن أخذه من دين آخر، أما ما سوى ذلك من القصص والأعاجيب والأساطير والغرائب التي وقعت في كتب بني إسرائيل فإنه يمكن أخذه، ولهذا امتلأت بعض تفاسير القرآن بالأساطير والأباطيل والغرائب والعجائب التي أسبغتها عليها رواية هذه الإسرائيليات.

ثانيا: أسباب دخول الإسرائيليات في التفسير:

لم يكن تفسير القرآن في بداية أمره ينفصل عن الحديث النبوي؛ إذ كله مروي منقول، وقد خشي كثير من العلماء من تفسير القرآن وتهيبوه ولم يقولوا فيه برأيهم رغم معرفتهم به، وقد كان سعيد بن المسيب يتكلم في الحلال والحرام فإذا سُئل عن شيء من القرآن سكت كأنه لم يسمع، وليس هذا موقف ابن المسيب فحسب، بل هو موقف كثير من العلماء، ولهذا اكتفى كثير من العلماء في التفسير بالرواية

والحق أن الروايات الصحيحة في التفسير قليلة؛ إذ أن كثير من الروايات ضعيف ومنكر،كما أنها روايات متضاربة متناقضة، وليست هذه الروايات عن الرسول ((صلى الله عليه وسلم)) بل منها ما هو عن الصحابة والتابعين وأتباع التابعين وهي آراؤهم الخاصة، وهم ليسوا بمعصومين. ولما كان التعويل على الرواية أكثر من التعويل على عقول العلماء - فقد دخلت إلى التفسير من هذا الباب مشكلات كبيرة؛ إذ أنه في مقابل الذين أحجموا عن إعمال عقولهم في القرآن ظهر كثير من أصحاب الجرأة والأهواء فدسّوا عن طريق الروايات كثيراً من الأكاذيب والأباطيل، وروى أن أحمد بن حنبل ويحي بن معين دخلا مسجد الرصافة؛ فقام رجل فقال: حدثنا أحمد بن حنبل ويحي بن معين قالا حدثنا عبد الرزاق عن معمر بن قتادة عن أنس بن مالك قال رسول الله ((صلى الله عليه وسلم)): (من قال لا إله إلا الله خلق الله من كل كلمة طيراً منقاره من ذهب وريشه من مرجان .... ) وذكر قصة شديدة الغرابة؛ فتعجب أحمد بن حنبل ويحي بن معين، وأنكرا عليه ذلك، وعندما عرّفاه بنفسيهما قال: إنني كنت أسمع أن أحمد بن حنبل ويحى بن معين أحمقين ولم أتحقق من ذلك إلا الساعة، ثم توجّه إليهما وقال: كأن الله لم يخلق أحمد بن حنبل ويحي بن معين غيركما وقام كالمستهزئ بهما.

وإذا كان الإمام الجويني والإمام ابن العربي يقولان بكفر الذي يكذب على النبي ((صلى الله عليه وسلم)) فإن الكرامية وبعض المتزهّدة قد أجازوا الكذب عن النبي معللين قوله ((صلى الله عليه وسلم)) - الذي رواه البخاري أبو داود والترمذي و ابن ماجة والإمام أحمد-: (مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ) بأن كذبهم له وليس عليه. والحق أن الوعيد شامل من كذب له أو عليه؛ إذ أن هذا الدين العظيم غير محتاج إلى تقويته بالكذب.

وليس ذلك فحسب بل إن الروايات المسندة نفسها لم تسلم من التخليط والتلبيس من الرواة الذين لا علم لهم، وذكر الإمام مسلم أن بعض الناس يجعلون أقوال الرسول ((صلى الله عليه وسلم)) من أقوال كعب الأحبار وإسرائيليات كعب من أقوال الرسول ((صلى الله عليه وسلم))؛ يقول الإمام مسلم: (قال بشر بن سعيد: اتقوا الله وتحفظوا من الحديث، فوالله لقد رأيتنا نجالس أبا هريرة فيحدث عن رسول الله ((صلى الله عليه وسلم)) وعن كعب الأحبار ثم يقوم، فأسمع بعض من كان معنا يجعل حديث كعب عن رسول الله ((صلى الله عليه وسلم)) وحديث رسول الله ((صلى الله عليه وسلم)) عن كعب)

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015