ولما عوّل الناس على الروايات دون النظر فقد كثرت هذه الروايات العجيبة ونقلها أكابر العلماء رغم رأيهم فيها؛ يقول الإمام الطبري في مقدمة كتابه تاريخ الأمم والملوك: (ما يكون في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه أو يستبشعه سامعه من أجل إنه لم يعرف له وجهاً في الصحة ولا معنى له في الحقيقة - فليعلم أنه لم يؤت في ذلك من قبلنا؛ وإنما أتى من بعض ناقليه إلينا؛ وإنما أدينا ذلك على نحو ما أدي إلينا) ولما كثرت الروايات الواهية والأباطيل والمناكير في تفسير القرآن والتاريخ وأسس عليها بعض العلماء فقد قال الإمام أحمد بن حنبل: (ثلاثة لا أصول لها المغازي والملاحم والتفسير)
ورغم قناعة الإمام وقناعة كل المسلمين أن التفسير أجلّ العلوم وأشرفها لتعلّقه بكلام الله عزّ وجل إلا إن اعتماد المفسرين على الروايات الواهية الضعيفة وعلى الإسرائيليات والمناكير والغرائب قد جعلت هذا العلم بلا أساس، ولهذا وقع المفسرون والمؤرخون في مزالق هذه الروايات رغم أن العلماء – كما قيل قديماً – همتهم الدراية والنقلة همتهم الرواية، وسبب وقوع بعض المؤرخين والمفسرين عند ابن خلدون – في ذلك هو اعتمادهم على مجرد النقل دون النظر والوقوف على طبائع الكائنات.
خصائص الإسرائيليات وكيف تعرف:
الإسرائيليات الواردة في كتب التفسير لها خصائص مفارقة لخصائص الحقائق القرآنية، فإذا كانت الحقائق القرآنية موافقة للحسّ والعلم وأحكام العقل وفيها تنزيه الله تعالى وسمو الأنبياء ورفعة أخلاقهم - فإن الإسرائيليات تكون مخالفة للعلم مناقضة للحسّ ولأحكام العقل، إذ فيها من المبالغات ما يجعلها من الخرافات والأساطير، هذا فضلاً عن مخالفتها للغة القرآن وسياقاته، ومن ذلك الآتي:-
(أ) مخالفة معاني اللغة:
قال كعب الأحبار في تفسير قوله تعالى: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ) إن "طوبى": شجرة في الجنة يسير فيها الراكب مائة عام، زهرها رياط، وورقها برود، وقضبانها عنبر، وبطحاؤها ياقوت، وترابها كافور، ووحلها مسك، يخرج من أصلها أنهار الخمر واللبن والعسل، وهي مجلس لأهل الجنة، وقيل: إنها شجرة تظلّل الجنة كلها، وقال مقاتل:كل ورقة منها تظلّل أمة كاملة، وقيل إنها الشجرة التي تثمر ثياب أهل الجنة، ومدلول كلمة طوبى في اللغة غير ذلك؛ إذ أن "طُوبَى" على وزن "فُعْلَى" من الطيّب؛ فقلبوا الياء واواً لضم ما قبلها؛ وهي كالحسنى من الحسن. و يقال: طُوبى لكَ وطُوباك أيضاً، وفيه معنى الدعاء؛ ولذلك ذكر ابن كثير أن من معانيها: حسنى لهم وذكر الإمام الطبري أن من معانيها: نعم ما لهم أو غبطة لهم.
وقال كعب الأحبار إن (ق) في قوله تعالى: (ق وَالقُرْآنِ المَجِيدِ) اسم جبل من زبرجدة خضراء يحيط بالأرض كلها،وهذا فيه نظر من حيث اللغة؛ قال الفراء: (إن كان "ق" اسم وليس حرف هجاء كان يجب أن فيه يظهر الإعراب) أي: لكان "قافٌ" بضمتين لا (قْ) بالسكون؛ لأنه مبتدأ، والحق أن "ق" حرف كبقية الحروف في أوائل السور نحو " ص، ن، الم، ألمر "وغيرها.؛ يقول ابن كثير عن قول كعب هذا: (هذا من خرافات بني إسرائيل التي أخذها عنهم بعض الناس لما رأى من جواز الرواية عنهم مما لا يصدق ولا يكذب، وعندي أن هذا وأمثاله وأشباهه من اختلاق بعض زنادقتهم يلبسون به على الناس أمر دينهم)
(ج) مخالفة العادات والسنن:
ذهب بعض نقلة الإسرائيليات إلى أنه كان لعصا موسى مآرب أخرى عجيبة غير أنه يتوكأ عليها ويهشّ بها على غنمه، وهذه المآرب هي أنها كانت تضيء له بالليل، وتحرس له الغنم إذا نام، ويغرسها فتصير شجرة تظله، وغير ذلك من الأمور الخارقة للعادة، والحق أنها لم تكن كذلك؛ إذ لو كانت كذلك لما استنكر موسى عليه السلام صيرورتها ثعبانًا ففر منها هاربًا
وذهب وهب بن منبه إلى داود عندما كان يذكر ذنبه فيبكي تجري دموعه أنهاراً
(د) الخرافات والأساطير:
زعم وهب بن منبه أن الشجرة التي نُهي عنها آدم عليه السلام إنما كانت شجرة خاصة تأكل منها الملائكة؛ فقيل له: إن الملائكة لا تأكل! قال: إن الله يفعل ما يشاء
¥