وَفِي مِثْلِ هَذَا نَزَلَ قَوْلُهُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) أَيْ هُوَ الْمُسْتَحِلُّ لِلْحُكْمِ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ. اهـ
وقال في موضع آخر (7/ 312):
وَإِذَا كَانَ مِنْ قَوْلِ السَّلَفِ: إنَّ الْإِنْسَانَ يَكُونُ فِيهِ إيمَانٌ وَنِفَاقٌ فَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِمْ: إنَّهُ يَكُونُ فِيهِ إيمَانٌ وَكُفْرٌ لَيْسَ هُوَ الْكُفْرُ الَّذِي يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ؛ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابُهُ فِي قَوْله تَعَالَى (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) قَالُوا: كَفَرُوا كُفْرًا لَا يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ وَقَدْ اتَّبَعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ. اهـ
قلت نقل قول الإمام أحمد عن الشالنجي في مجموع الفتاوى (7/ 254):
قال الإمام أحمد في كلام له:
وَمِنْ نَحْوِ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:
(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) ..
فَقُلْت لَهُ (الشالنجي): مَا هَذَا الْكُفْرُ؟
قَالَ (أحمد): كُفْرٌ لَا يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ مِثْلَ الْإِيمَانِ بَعْضُهُ دُونَ بَعْضٍ؛ فَكَذَلِكَ الْكُفْرُ حَتَّى يَجِيءَ مِنْ ذَلِكَ أَمْرٌ لَا يُخْتَلَفُ فِيه. اهـ
وجاء في تفسير الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى (7/ 23):
فإذا قال قائل: أليس النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر؟ والكافر ليس أخاً للمؤمن؟
فالجواب أن يقال:
إن الكفر الذي ذكره النبي عليه الصلاة والسلام هو كفر دون كفر، فليس كل ما أطلق الشرع عليه أنه كفر يكون كفراً، فهنا صرح الله - عز وجل - بأن هاتين الطائفتين المقتتلتين إخوة لنا مع أن قتال المؤمن كفر.
فيقال: هذا كفر دون كفر، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: اثنتان في الناس هما بهما كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت.
ومعلوم أن الطاعن في النسب والنائح على الميت لا يكفر كفراً أكبر، فدل ذلك على أن الكفر في شريعة الله في الكتاب وفي السنة كفران: كفر مخرج عن الملة، وكفر لا يخرج عن الملة. اهـ
وفي تفسير شيخ السلفية عبد الرحمن السعدي (1/ 233):
(وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) قال ابن عباس: كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق، فهو ظلم أكبر، عند استحلاله، وعظيمة كبيرة عند فعله غير مستحل له.
وفي فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ (12/ 280) قال:
وأما الذي قيل فيه: إنه كفر دون كفر .. إذا حاكم إلى غير اللّه مع اعتقاده أنه عاص وأن حكم اللّه هو الحق، فهذا الذي يصدر منه المرة ونحوها.
أما الذي جعل قوانين بترتيب وتخضيع فهو كفر، وإن قالوا أخطأنا وحكم الشرع أعدل فهذا كفر ناقل عن الملة.
كلام الشيخ محمود شاكر
وجاء في كلام نفيس للشيخ محمود محمد شاكر رحمه الله تعالى في التعليق على تفسير الطبري:
أن الحاكم الذي حكم في قضية بعينها بغير حكم الله فيها، فإنه إما أن يكون حكم بها وهو جاهل، فهذا أمره أمر الجاهل بالشريعة.
وإما أن يكون حكم بها هوى ومعصية، فهذا ذنب تناله التوبة، وتلحقه المغفرة.
وإما أن يكون حكم بها متأولا حكما خالف به سائر العلماء، فهذا حكمه حكم كل متأول يستمد تأويله من الإقرار بنص الكتاب، وسنة رسول الله.
وأما أن يكون كان في زمن أبي مجلز أو قبله أو بعده حاكم حكم بقضاء في أمر، جاحدا لحكم من أحكام الشريعة، أو مؤثرا لأحكام أهل الكفر على أحكام أهل الإسلام، فذلك لم يكن قط.
فلا يمكن صرف كلام أبي مجلز والإباضيين إليه.
فمن احتج بهذين الأثرين وغيرهما في غير بابهما، وصرفهما إلى غير معناهما، رغبة في نصرة سلطان، أو احتيالا على تسويغ الحكم بغير ما أنزل الله وفرض على عباده، فحكمه في الشريعة حكم الجاحد لحكم من أحكام الله: أن يستتاب، فإن أصر وكابر وجاحد حكم الله، ورضي بتبديل الأحكام، فحكم الكافر المصر على كفره معروف لأهل هذا الدين.
وكتبه محمود محمد شاكر. اهـ
¥