ولما كانت الفاصلة القرآنية تابعة للمعنى فإن هذا التبعية من شأنها أن تجعل لهذه الفاصلة خصائص معينة لا يدانيها فيها السجع، إذ أن من الملاحظ أن الفاصلة القرآنية قد تتغير بحسب تغير الموضوع وإذا أردت دليلاً بيناً على ذلك فانظر إلى سورة مريم فإنك تجد أن السورة لما بدأت بذكر الأنبياء وخصالهم الحميدة انتظمت الفاصلة ذات الياء المشددة والألف (زكريا، خفيا، شقيا … الخ) حتى إذا ما جاء إلى ذكر عيسى وأمه عليهما السلام واستمرت الفاصلة كما كانت - تجدها فجأة قد تغيرت عند جدال قومه فيه وتأليهم إياه "ذلك عيسى بن مريم قول الحق الذي فيه يمترون" ثم يلي ذلك الفواصل الآتية (يكون، عظيم) حتى إذا انقضى الموضوع ودخلت قصة إبراهيم تجد الفاصلة الأولى قد عادت كما كانت عليه في أول السورة، كأنما كان ذكر الأنبياء وتوحيدهم وإخلاصهم هو الأصل؛ حتى إذا خرج قوم عيسى عليه السلام عن هذا الأصل خرجت بخروجهم الفاصلة عن أصلها وموضعها. ثم يستمر حال الفاصلة كما كان حتى إذا جاء ذكر المكذبين وما ينتظرهم من عذاب وانتقام، تغير جرس القافية مرة أخرى: " قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضْعَفُ جُندًا .... الخ" وفي موضع الاستنكار يشتد الجرس والنغم بتشديد الدال:"تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا ....... الخ " وهكذا يسير الإيقاع الموسيقي في السورة وفق المعنى والجو؛ ويشارك في إبقاء الظل الذي يتناسق مع المعنى في ثنايا السورة، وفق انتقالات السياق من جو إلى جو ومن معنى إلى معنى.
ومثل ذلك أيضا تجده واضحاً في سورة طه التي بدأت بمخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم وقصة موسى عليه السلام وكانت الفاصلة بالياء المقصورة (تشقى، يخشى، العلا، استوى، الثرى) حتى إذا دخلت قصة السامري وذكر انتكاس بني إسرائيل على يده تحولت الفاصلة إلى الياء المنقوصة (السامري؛ فنسي) حتى إذا ما انتهت قصة السامري عادت الفاصلة كما كانت (نسفاً، علماً).
وإذا كان شرط السجع - كما هو معروف – التماثل في الحرف الأخير نوعاً وإعراباً فقد خالفت الفواصل القرآنية كلا الوصفين، إذ جاءت في بعض الأحيان مختلفة الإعراب، وجاءت في أحيان أخرى غير متماثلة الحرف
فصاحة السور القرآنية:
إن لكل سورة من سورة القرآن طابعها الخاص ولها إيقاعها وجرسها المميز؛ ولهذا يقول سيد قطب: (يلحظ من يعيش في ظلال القرآن أنّ لكل سورة من سوره شخصية؛ لها روح يعيش معها القلب كما لو كان يعيش مع روح حي مميز الملامح والسمات والأنفاس، ولها جو خاص يظلّل موضوعاتها كلها ..... ولها إيقاع موسيقى خاص إذا تغير في ثنايا السياق - فإنما يتغير لمناسبة موضوعية خاصة، وهذا طابع عام في سور القرآن جميعاً) ويقول البروفسير عبد الله الطيب: (الحق أن الناظر في سور القرآن يجد فيها ألواناً من طرق الإيقاع الغريب الوقع؛ مثلاً سورة الكهف و (قل أوحى) لها إيقاع متشابه، وسورة الإسراء والفرقان و (هل أتى على الإنسان حين من الدهر) فيهن إيقاع متشابه، وسورة ص و ق متشابهتي الجرس)
ولعل الذي يحدث هذا الجرس هو نوع الحروف في السورة وطريقة سوقها فيها؛ وإن كان في كل من سورة ص وق – رغم تشابههما في الجرس ومعنى المفاعلة بين طرفين – بعض الاختلافات الجوهرية في هذا الجرس المتشابه؛ يقول الزركشي عن سورة ق: (وسورة ق مبنية على ذلك الحرف الذي ابتدأت به؛ ولهذا تجدها قد اشتملت على الكلمات القافية من ذكر القرآن و الخلق وتكرار القول والقرب من ابن آدم وتلقي الملكين وقول العتيد وذكر الرقيب وذكر السابق والقرين والإلقاء في جهنم والتقدم بالوعد وذكر المتقين وذكر القلب والقرن والتنقيب في البلاد وذكر القتل مرتين وتشقق الأرض وإلقاء الرواسي فيها وبسوق النخل والرزق وغير ذلك. ثم إن معاني السورة مناسب لما في حرف القاف من الشدة والجهر والقلقلة والانفتاح) ويقول عن سورة ص: (وتأمل ما اشتملت عليه سورة ص من الخصومات المتعددة؛ فأولها
¥