أما إفراد ما حقه الجمع في قوله تعالى: "فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ" فقد ذهب المفسرون إلى أن النهر هو الضياء والسعة ومنه اشتق النهار؛ وليس المقصود الماء، وهذا يدل على أن الجنة لا ظلام فيها، ويقول سيد قطب: " لفظ في جنات ونهر يلقي ظلال النعماء واليسر حتى في لفظه الناعم المنساب، وليس لمجرد إيقاع القافية تجيء كلمة "نهر" بفتح الهاء. بل كذلك لإلقاء ظل اليسر والنعومة في جرس اللفظ وإيقاع التعبير"
أما إيثار أغرب اللفظين في قوله تعالى: "تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى" فمعلوم -كما سبق - أن المفردات القرآنية قد تأتي مألوفة أو غريبة مراعاة للمعنى، وقد جاء اللفظ الغريب هنا لأنه أقوى في الدلالة وأحسن في التعبير من المألوف، ولو قال (ظالمة) أو (جائرة) لتواري الأثر المنشود؛ إذ أن المشركين لما جاءوا بأغرب الأفعال وهي رغبتهم في البنين ورفضهم للإناث؛ فإذا يشّر أحدهم بأنثى ظل وجهة مسوّداً وهو كظيم؛ وهو مع ذلك يقول إن الملائكة بنات الله، فهل من المعقول أن يكره الإنسان أمراً ثم يرضاه لله تعالى! إن ذلك لأمر غريب، ولما جاء المشركون بأغرب الأفعال عبّر الله تعالى عنها بأغرب الألفاظ؛ وهذا أمر يدل على الترابط القوي بين الألفاظ والمعاني في القرآن العظيم.
أما إيراد صيغة المفعول موقع صيغة الفاعل قي قوله تعالى: "جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا" فمعلوم في اللغة والقرآن وقوع صيغة المفعول موقع صيغة الفاعل ووقوع صيغة الفاعل موقع صيغة المفعول كثيراً؛ بل من المعروف أن لذلك قاعدة بلاغية وهي المجاز العقلي، ولهذا فليس من الغرابة في شيء وقوعها في الفاصلة، وليس ذلك فحسب يل إن هناك وجها أكثر قوة من ذلك؛ حيث إن هذه القاعدة نفسها للباحث فيها نظر؛ يقول الإمام الطبري: (وكان بعض نحويي أهل البصرة يقول - في قوله تعالى حِجَابًا مَّسْتُورًا -: حجاباً ساتراً ولكنه أخرج – وهو فاعل – في لفظ مفعول ... وكان غيره من أهل العربية يقول: معناه حجاباً مستوراً عن العباد فلا يرونه، وهذا القول الثاني أظهر بمعنى: أن المستور هو الحجاب) وهذا المعنى أبلغ من ذلك الأول.
أما حذف الصفة في قوله تعالى:) بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (فمعلوم أن الحذف من الأمور البلاغية التي تقع في القرآن، ومعلوم عند علماء البلاغة أن الحذف أبلغ من الذكر، ولما كان الأمر كذلك فإن وقوع الحذف في الفاصلة كوقوعه في غير الفاصلة وذلك كما في قوله تعالى: "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ" أي: شيء نافع. وقوله: "يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا" أي: كل سفينة صالحة، ولو كان الملك يأخذ كل سفينة صالحة أو غير صالحة لما خرقها العبد الصالح لتخرج عن طلب الملك.
ولما كان الأمر على الوجه الذي ذكرنا فقد اتضح اتضاحاً لا يدع للشك مجالاً أن الفواصل أعمق بكثير من كونها سجعاً صوتياً جزئياً، ولهذا يقول الإمام الزمحشري: (أنه لا تحسن المحافظة على الفواصل لمجردها إلا مع بقاء المعنى على سدادها وعلى النهج الذي يقتضيه حسن النظم والتئامه كما لا يحسن تخيّر الألفاظ المؤنقة في السمع السلسة على اللسان إلا مع مجيئها منقادة للمعاني الصحيحة المنتظمة؛ إما أن تهمل المعاني ويهتم بتحسين اللفظ وحده غير منظور إلى مؤداه – فليس من البلاغة في فتيل أو نقير)
ولما كان الأمر يدور حول المعنى دوراناً لا انفكاك عنه فقد عرّف الإمام الزركشي الفاصلة القرآنية بهذا الاعتبار وفرّق بينها وبين السجع؛ لمراعاة هذا الجانب؛ يقول: (الفواصل حروف متشاكلة في المقاطع يقع بها إفهام المعنى وهذا يفرق بينها وبين السجع)
¥