خصومة الكفار مع النبي صلى الله عليه وسلم وقولهم أجعل الآلهة إلها واحدا إلى آخر كلامهم ثم اختصام الخصمين عند داود؛ ثم تخاصم أهل النار ثم اختصام الملأ الأعلى ثم تخاصم إبليس واعتراضه على ربه وأمره بالسجود ثم اختصامه ثانيا في شأن بنيه وحلفه ليغوينهم أجمعين إلا أهل الإخلاص منهم)
والحق أن كل سورة لها جرسها الذي يناصر معناها ويشكل ظلها وطابعها المميز؛ فالظل الغالب في جو سورة مريم - مثلا - هو ظل الرحمة والرضا والاتصال، وإنك لتكاد تحس من جرس لفظها لمسات الرحمة الندية ودبيبها اللطيف كما تحس انتفاضات الكون وارتجافاته لوقع كلمة الشرك التي لا تطيقها فطرته
وإذا أردت دليلا آخر فانظر إلى سورة غافر ذات الرنين الخاص والإيقاعات المعينة التي كأنما هي مطارق منتظمة الجرس ثابتة الوقع، مستقرة المقاطع؛ هذا فضلا عن ما اشتملت عليه من ألفاظ الشدة والعنف بلفظها أو بمعناها، وإن كان هذا الرنين قد يرقّ أحيانا؛ يقول سيد قطب: (وعلى العموم فإن السورة كلها تبدو وكأنها مقارع ومطارق تقع على القلب البشري وتؤثر فيه بعنف، وهي تعرض مشاهد القيامة ومصارع الغابرين، وقد ترق أحياناً فتتحول إلى لمسات وإيقاعات تمس هذا القلب برفق، وهي تعرض حملة العرش ومن حوله يدعون ربهم ليتكرم على عباده المؤمنين، أو وهي تعرض عليه الآيات الكونية والآيات الكامنة في النفس البشرية)
وانظر كذلك إلى رنة الإعلان التي تتجلى في بناء سورة (الرحمن) كله، وفي إيقاع فواصلها؛ تتجلى هذه الرنة في إطلاق الصوت إلى أعلى، وامتداد التصويت إلى بعيد؛ كما تتجلى في المطلع الموقظ الذي يستثير الترقب والانتظار لما يأتي بعد المطلع من أخبار، والآية الأولى) الرَّحْمَنُ (كلمة واحدة؛ مبتدأ مفردا؛ كلمة واحدة في معناها الرحمة وفي رنتها الإعلان، إن السورة كلها إعلان عام في ساحة الوجود الكبير؛ إعلان ينطلق من الملأ الأعلى، فتتجاوب به أرجاء الوجود ويشهده كل ما في الوجود؛ يقول سيد قطب: (هذه السورة المكية ذات نسق خاص ملحوظ؛ إنها إعلان عام في ساحة الوجود الكبير وإعلام بآلاء الله الباهرة الظاهرة في جميل صنعه وإبداع خلقه؛ وفي فيض نعمائه وفي تدبيره للوجود وما فيه؛ وتوجه الخلائق كلها إلى وجهه الكريم، وهي إشهاد عام للوجود كله على الثقلين: (الإنس والجن) المخاطبين بالسورة على السواء، في ساحة الوجود، على مشهد من كل موجود، مع تحديهما إن كانا يملكان التكذيب بآلاء الله، تحديا يتكرر عقب بيان كل نعمة من نعمه التي يعددها ويفصلها، ويجعل الكون كله معرضا لها، وساحة الآخرة كذلك)
وانظر كذلك إلى سورة المرسلات؛ إنها سورة حادة الملامح، عنيفة المشاهد، شديدة الإيقاع، كأنها سياط لاذعة من نار؛ حيث تتوالى مقاطع السورة وفواصلها قصيرة سريعة عنيفة، ويتلقى الحس هذه المقاطع والفواصل بلذعها الخاص، وعنفها الخاص؛ واحدة إثر واحدة، وما يكاد يفيق من إيقاع حتى يعاجله إيقاع آخر بنفس العنف وبنفس الشدة، ومنذ بداية السورة والجو عاصف ثائر بمشهد الرياح أو الملائكة؛ وهو افتتاح يلتئم مع جو السورة وظلها تمام الالتئام، والسورة توقف القلب وقفة المحاكمة الرهيبة، حيث يواجه بسيل من الاستفهامات والاستنكارات والتهديدات التي تنفذ إليه كالسهام المسنونة، وتعرض السورة من مشاهد الدنيا والآخرة، وحقائق الكون والنفس، ومناظر الهول والعذاب، وعقب كل معرض ومشهد تلفح القلب المذنب لفحة كأنها من نار:) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (ويتكرر هذا التعقيب عشر مرات في السورة. وهو لازمة الإيقاع فيها. وهو أنسب تعقيب لملامحها الحادة، ومشاهدها العنيفة، وإيقاعها الشديد، وتكرارها هنا على هذا النحو يعطي السورة سمة خاصة، وطعما مميزا حادا
¥