اختلف العلماء في تسمية الفواصل سجعاً فانقسموا فريقين: فريق لم ير بأساً في ذلك وفريق تشدد في ذلك غاية التشدد نحو الإمام الباقلاني والرماني وغيرهما.

ولاشك أن صاحب النظر المتعجل ليحسب أن هذه الآراء المتشدّدة ما هي إلا تزمّت وتحكّم، ولكن الأمر عند إنعام النظر يختلف؛ وذلك لأن الفواصل القرآنية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بأمور في غاية الأهمية؛ وتفصيل ذلك كالآتي:-

1. إن الفواصل ترتبط ارتباطاً وثيقاً بكل الجملة القرآنية؛ وليست هي بأمر صوتي محض يحدد النهايات؛ إذ أنها جزء من كلٍ معجز، وليس للجزء إذ ما تجرد عن الكل من حكم ولا معنى؛ كما سبق.

2. إن الفواصل القرآنية ترتبط بالمعنى ارتباطاً محكماً، ولأجل ذلك فإنها قد تتغير بحسب تغير المعنى، كما سيأتي.

3. إن الفواصل القرآنية ليست بجارية على قانون السجع الذي تتوافق فيه الحروف النهائية توافقاً مضطّرداً.

4. إن السجع يأتي في أغلب الأحيان متكلّفاً سمجاً وليست كذلك فواصل القران، ومن المشهور أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كره السجع المتكلف وأنكره؛ وما إنكاره صلى الله عليه وسلم لهذه الظاهرة إلا لأجل إكراه المعاني ومراعاة اللفظ، وليس العيب في السجع نفسه كما ذكر الجاحظ

والحق أن الفواصل القرآنية ما جاءت مضطردة أو متنوعة إلا لأجل المعنى، فهي لا تستكره المعاني مراعاة للألفاظ والأجراس أصلاً، بل إن الجانب المعنوي واللفظي للإعجاز قد ارتبطا في القرآن ببعضهما ارتباطاً وثيقاً بحيث لا يمكن أن يضام أحدهما لأجل الآخر، إلا أن الفواصل القرآنية قد تعدل عن المعتاد وتسلك مسالك أخرى من التعبير؛ وقد أحصى الباحث من كلام المفسرين والعلماء أكثر من عشرين شكلاً من أشكال العدول في الفواصل القرآنية، وهذه الأشكال قد توهم غير المتأمل أنها مراعاة للفواصل والأسجاع، ولكن الأمر بخلاف ذلك عند إنعام النظر، ومن أشكال العدول الكثيرة في الفاصلة القرآنية ما يأتي:

1/ إفراد ما حقه التثنية:وذلك نحو قوله تعالى: "فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى"

2/ إفراد ما حقه الجمع:وهذا نحو قوله تعالى: "فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ"

3/ إيثار أغرب اللفظين:وذلك نحو قوله تعالى: "تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى"

4/ إيقاع صيغة المفعول موقع صيغة الفاعل: نحو قوله تعالى: "جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا" أي: ساتراً.

5 - حذف كلمة أو صفة: قد تحذف من الجملة القرآنية صفة أو كلمة لتكون الكلمة التي هي قبلها فاصلة؛ وذلك نحو قوله تعالى: "بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ"أي: شراب كثير.

ورغم أن العدول قد يبدو لغير المتأمل أنه مراعاة للصوت الجزئي في أواخر الآيات دون المعنى؛ إلا أن الأمر أعمق من ذلك بكثير، حيث أن الفاصلة إنما جاءت كذلك لأن المعنى يقتضي هذا العدول وبصورته التي بها جاءت، فلو ذهبت تنزع هذه الفواصل وتأتي بغيرها لم يحسن المعنى، ثم إن الاعتبار إنما هو بصوت المفردات القرآنية كلها، وليس لمراعاة مفردة واحدة من معنى كما سبق.

وإذا كان الأمر كما سبق فإنه يمكن النظر إلى معاني تلك الفواصل التي عدلت عن الأسلوب المعتاد، ففي إفراد ما حقه التثنية في قوله تعالى:) فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (كان الخطاب لآدم عليه السلام وزوجه حواء؛ ولكن الله تعالى قد ثنى في قوله (يخرجنكما) ثم أفرد في (تشقى) وذلك لأن النفقة كما قررها الله تعالى أصلاً على الزوج، ولأجل ذلك لم يقل (فتشقيان)؛ وهذا الأمر جار في أبناء آدم وبنات حواء؛ إذ أن النفقة الواجبة على الزوجة في الشريعة هي: الطعام والشراب والسكن والكسوة بدلالة قوله تعالى: " إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى" فإن زاد الزوج على ذلك فهو مأجور، وبهذا فقد اتضح أنه لم يبق لمن يتوهم أن الإفراد كان لمراعاة الفاصلة – من قول.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015