وليس ذلك فحسب؛ بل إن التعبير القرآني قد يعدل عن اللفظ السهل إلى اللفظ غير المألوف إذا كانت المفردات الأخرى في النظم كذلك، والأمر بالعكس أيضا، وإذا أردت دليلاً واضحا في ذلك فانظر إلى قوله تعالى: "قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا"فمن الملاحظ أن الله سبحانه تعالى لما أتى بأغرب أنواع القسم (التاء) التي هي أقل استعمالاً وأبعد عن أفهام العامة من الباء والواو – فقد قرن ذلك بأغرب صيغ الأفعال التي ترفع الأسماء وتنصب الأخبار (تفتأ)، ومعلوم أن (كان) وما قاربها أعرف عند الكافة من (تفتأ) وكذلك لفظ (حرضا) أغرب من جميع ألفاظ الهلاك الأخرى، فاقتضى حسن الوضع أن تجاور كل لفظة بلفظة من جنسها في الغرابة أو الاستعمال توخياً لحسن الجوار حتى تتعادل الألفاظ في الوضع وتتناسب في النظم، ألا ترى أن الله تعالى قال في غير هذا الموضع: "وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ"وذلك لأنه لما كانت الألفاظ المجاورة لهذا القسم كلها مستعملة متداولة فإنه لم يأت فيه لفظ غريب يفتقر إلى مجاورة ما يشاكله في الغرابة
ومن الملاحظ أن الآيات أو الجمل القرآنية لا تثقل أو تقبح أبدا؛ وإن اشتملت على كافة الحروف العربية؛ ومن ذلك - على سبيل المثال –قوله تعالى:) ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (ولاشك أن في هذه الآية ملاحظات تكشف الوضع الصوتي المنتظم والانسجام الدقيق لحروف القرآن، وهذه الملاحظات تتمثل في الآتي:
1. جمعت الآية جميع حروف الهجاء الثمانية والعشرين واشتملت على أجناس الحروف الثقيلة منها؛ ومع ذلك لم تفقد سلاستها بل زادها ذلك جمالاً وروعة ومزج نغمة الفصاحة فيها.
2. تكرر كل من الألف والياء – وهي أخف حروف الهجاء وتنقلب أحدهما إلى الأخرى – إحدى وعشرين مرة في هذه الآية.
3. معلوم أن الميم والنون (مع التنوين) متشابهتان ويمكن أن تحلّ كل واحدة محل الأخرى، وهذان الحرفان قد ورد كل منهما في هذه الآية ثلاث وثلاثين مرة.
4 - أن الطاء والضاد والذال والزاي حروف متآخية حسب المخرج والصفة وقد ورد كل واحد منها مرتين في هذه الآية الكريمة.
5 - أن الصاد والسين والشين حروف متآخية حسب المخرج والصفة؛ وقد ورد كل واحد منها ثلاث مرات.
6 - معلوم أن الهمزة والهاء متآخيتان في المخرج ولكن الهاء أخف من الهمزة بدرجة، ولأجل ذلك ذكرت الهمزة ثلاث عشرة مرة والهاء أربع عشر مرة.
فصاحة الفواصل القرآنية:
للفواصل القرآنية جماليات وفنون ودلالات ومعاني خاصة ولا يدانيها في ذلك قوافي الشعر ولا نهايات الأسجاع؛ وقد تأخذ هذه الفواصل أشكالا معينة عند كل معنى من المعاني؛ يقول سيد قطب: (إن كل سورة من سور القرآن تغلب فيها قافية معينة لآياتها - والقوافي في القرآن غيرها في الشعر، ففي القرآن القافية ليست حرفا متحدا، ولكنها إيقاع متشابه - مثل: " بصير، حكيم، مبين، مريب" و "الألباب، الأبصار، النار، قرار" و "خفيا، شقيا، شرقيا، شيئا" ....... إلخ، وتغلب القافية الأولى في مواضع التقرير، والثانية في مواضع الدعاء، والثالثة في مواضع الحكاية) وهذه الملاحظة دقيقة جدا؛ إذ أن هذه الفواصل القرآنية قد تأخذ أشكالا متعددة بحسب المعنى كما سيأتي، ونهايات الآي هذه أو الفواصل لا تسمى قوافي ولا سجعا عند كثير من العلماء؛ وذلك لأسباب جوهرية؛ ولاشك أن المشابهة السطحية بين فواصل القرآن وبين أسجاع العرب قد توهم الناظر غير المتأمل أن الأمرين واحد، ولكن عند النظر الدقيق يتبين الفرق الشاسع والبون البعيد بينهما؛ ولأجل ذلك
¥