ولا شك أن هذه النماذج التي عرضناها سابقا في هذا الموضوع تحتاج إلى دراسة وتحليل وتعليل يسبر أغوارها ويعيّن أسبابها، وإذا رجعنا إلى تراثنا القديم - لتحديد معايير دقيقة تساهم في عملية التحليل هذه - فإن أقرب علم إلى دراسة مثل هذه الظواهر هو علم الفصاحة؛ ولكن هل يمكن لمعايير هذا العلم أن تمنحنا التفسير الكافي لمثل تلك النماذج؟ والإجابة عن هذا السؤال تكمن في الجزء الآتي من هذه الدراسة التي تقوم ابتداء على اختبار تلك المعايير؛ وذلك بتطبيقها على النص القرآني؛ فإن صلحت وأثبتت جدواها ونهضت البراهين الدالة على صحنها وفعاليتها - عولت هذه الدراسة عليها؛ وإلا عادت الدراسة تارة أخرى إلى تحديد المفهوم من خلال القرآن وأقوال العلماء الأوائل ثم عولت على هذا المفهوم الثاني وعملت على تطبيقه داخل النص القرآني؛ وتفصيل ذلك كالآتي:
مفهوم الفصاحة عند العلماء الأقدمين:
الفصاحة مشتقة من الفصح، وهو خلوص الشيء مما يشوبه، وأصله في اللبن، يقال: فصح اللبن وأفصح؛ فهو فصيح ومفصح: إذا تعرى من الرغوة، قال الشاعر:
وتحت الرغوة اللبن الفصيح
ومنه استعير فصح الرجل: إذا جادت لغته.
أما المعنى الاصطلاحي للفصاحة فهو معنى شديد الغموض متشعب المسالك كثير التعريفات متعدد الاتجاهات، وما زال العلماء يختلفون فيه قديماً وحديثاً؛يقول ابن الأثير:) اعلم أن هذا باب متعذّر على الوالج ومسلك متوّعر على الناهج، ولم يزل العلماء من قديم الوقت وحديثه يكثرون القول فيه والبحث عنه ...... ولما وقفت على أقوال الناس في هذا الباب ملكتني الحيرة فيها ولم يثبت عندي منها ما أعول عليه) وما ذاك إلا لأن علماء البلاغة الأقدمين - الذين أسسوا هذا العلم ووضعوا لبناته الأولى - قد عرفوا هذه الفصاحة تعريفاً غامضاً لا يكاد يبيّن مرادهم فيه؛ يقول الجرجاني: (لم أزل منذ خدمت العلم أنظر فيما قاله العلماء في معنى الفصاحة ...... وفي بيان المغزى من هذه العبارات وتفسير المراد بها - فأجد بعض ذلك كالرمز والإيماء والإشارة في خفاء وبعضه كالتنبيه على مكان الخبئ ليطلب وموضع الدفين ليبحث عنه فيخرج) ويقول أيضا: (إنك إذا قرأت ما قاله العلماء فيه وجدت جلّه أو كلّه رمزاً ووحياً وكناية وتعريفاً وإيماء إلى الغرض من وجه لا يفطن له إلا من غلغل الفكر وأدقّ النظر ومن يرجع من طبعه على ألمعية يقوى معها على الغامض ويصل بها إلى الخفي؛ حتى كأن بسلأ حراماً أن تتجلى معانيهم سافرة الأوجه لا نقاب لها وبادية الصفحة لا حجاب دونها وحتى كأن الإفصاح بها حرام وذكرها إلا على سبيل الكناية غير سائغ)
وقد جاءت تعريفات البلاغيين للفصاحة متنازعة بين الإفراد والتركيب واللفظ والمعنى، وأفضى ذلك إلى خلاف لا يكاد ينتهي وإلى نزاع لا يكاد ينحسم؛ ولذلك ترى هذا المفهوم في كتبهم يتداخل مع مفهوم البلاغة تارة ويتقاطع معه تارة وينفصل عنه تارة أخرى؛ يقول الرازي: (وأكثر البلغاء لا يكادون يفرقون بين البلاغة والفصاحة بل يستعملونهما استعمال الشيئين المترادفين على معنى واحد في تسوية الحكم بينهما، ويزعم بعضهم أن البلاغة في المعاني والفصاحة في الألفاظ ويقول أيضا: (وقد اختلف الناس في الفصاحة؛ فمنهم من قال إنها راجعة إلى الألفاظ دون المعاني، ومنهم من قال إنها لا تخصّ الألفاظ وحدها) ويقول ابن الأثير: (البلاغة شاملة للألفاظ والمعاني وهي أخص من الفصاحة) ويرفض الجرجاني أي تعلّق للفصاحة باللفظ والصوت والأصداء ومن اعتقد ذلك فهو - عنده - واهم، يقول: (لا تعلّق لشيء من هذه المعاني بتلاؤم الحروف)
معايير الفصاحة عند اللفظيين:
اهتم اللفظييون باللفظ المفرد اهتماماً كبيراً ووضعوا معايير لفصاحته؛ ولكل معيار من هذه المعايير نقيضه الذي إذا توفر في اللفظ اختل أمره ولم يعد فصيحاً، وهذا العيوب عندهم كالآتي:
أ-تنافر الحروف:
وهذا التنافر بين الحروف هو ما تكون الكلمة بسببه ثقيلة على اللسان، وهو على درجات عندهم: منه المتناهي في الثقل نحو "العهخع" وما دون ذلك نحو مستشزرات في قوله امرئ القيس
غدائره مستشزرات إلى العلا
وذلك لتوسط الشين بين التاء والزاي
¥