4 / ومن الحكم أيضاً أن يتميز قوي الإيمان من ضعيف الإيمان كما قال تعالى: (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ) (البقرة: من الآية143) فهذا امتحان بكمال الانقياد، والابتلاء بالمبادرة إلى الامتثال.

و حاصل القول في حكمة النسخ أن يقال: إن الله عز وجل ينقل الناس من خير، إلى ما هو أنفع لهم وأعظم وأكثر خيرية كما قال الله عز وجل: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) (البقرة: من الآية106) فالناسخ خير، سواء كان إلى أخف، أو إلى أثقل، أو إلى مساوٍ، وينبغي أن نعلم أن أحكام الله عز وجل مشتملة على الحكم العظيمة، فإذا شرع لنا شرعاً ثم غيره إلى شرع آخر في قضية من القضايا فإن ذلك لحكمة قد تبدوا لنا وقد تخفى علينا.

بعض الفوائد والقواعد في النسخ:

1 / فمنها: انه إذا تعارض دليلان ولم يمكن الجمع بينهما، ففي هذه الحالة لابد أن يقال: إن احدهما ناسخ، والآخر منسوخ، وذلك إذا علم التاريخ، فكيف يتم العلم بالمتقدم والمتأخر؟

.قد يعرف ذلك من خلال النص، كما قال الله عز وجل في آية المجادلة (أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ) (المجادلة: من الآية13) فهذا واضح.

و قد ينعقد الإجماع في تعيين المتقدم والمتأخر.

أو يأتي من طريق صحيح عن أحد الصحابة يعين فيه المتقدم أو المتأخر.

أما إذا قال الصحابي هذه الآية ناسخة للآية الفلانية، فهذا لا يكون حجة ملزمة، لأنه قد يقوله باجتهاده، وقد يخالفه غيره فليس ذلك بحجة ملزمة.

2 / و من الأمور المهمة التي ينبغي أن تعرف في هذا الباب أيضا؛ أن النسخ لا يثبت بالاحتمال؛ وهذا أصل مهم، لأن كثيرا من دعاوى النسخ هي بمجرد الاحتمال، ولذلك كثرة دعاوى النسخ جداً، وألفت فيه مجلدات، ولربما تجد كتابا واحدا في الناسخ والمنسوخ يقع في ثلاثة مجلدات، ومن أسباب ذلك هو أنهم يبنون في كثير من الأحيان على الاحتمال، فالنسخ لابد فيه من دليل يدل عليه، سواء من الآية نفسها، أو بواسطة النقل الصريح عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو عن الصحابة بشرطه، أو إجماع الأمة، أو عن طريق وقوع التعارض الحقيقي مع معرفة التاريخ، لأن ذلك يدل على النسخ، وأما كون الصحابي هذا أسلم متأخرا، أو أنه كان صغيرا مثلاً، أو نحو ذلك، فهذا لا يعرف به المتقدم من المتأخر ولا يبنى عليه الحكم بالنسخ.لأنه قد يكون حدث عن صحابي آخر وإن لم يكن حاضراً القصة ..

3 / ومن الفوائد واللطائف، أنه لا يوجد بالقرآن آية منسوخة إلا والناسخة بعدها إلا في موضعين اثنين من القرآن ــ على القول بأن النسخ واقع فيهما ــ الموضع الأول: عدة المتوفى عنها زوجها، في قول الله عز وجل في سورة البقرة في آية 234 (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) (البقرة: من الآية234) في الآية 240 (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ) (البقرة: من الآية240) فالآية الأولى هي الناسخة للثانية، وكون الترتيب في المصحف هذه فيه متقدمة وهذه فيه متأخرة لا يعنى أن المنسوخة نزلت بعد الناسخة،وإنما نزلت قبلها ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرشدهم إلى موضعها من السورة .. فالترتيب في الآيات في السورة المعينة ليس على ترتيب نزول الآيات على النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا الموضع الأول، والراجح أن هذه الآية فعلا ناسخة للآية الثانية، وإن كان بعض أهل العلم يقولون خلاف ذلك، كشيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله يقول بقاءها مدة الحول مستحب وليس بمنسوخ، وإنما ذكر المدة المستحبة والمدة الواجبة.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015