"والتعبير عنه بالفتح للإيذان بأنه سر مكنون، وباب مغلق لا يطلع عليه أحد" (2). وهذا المعنى الذي أوحت به الكلمة إشارة لطيفة إلى ما عليه اليهود من تشدد في كتم ما أنزله الله عليهم، وكلفهم بتبيينه للناس.
ولعل من المواضع الجميلة التي علق عليها أبو السعود، ما قاله في التعليق على سر التعبير بالصبغة في قول الله تعالى: ”صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ“ (البقرة: 138 (، حيث قال: "الصبغة .. هي الحالة التي يقع عليها الصبغ، عبر بها عن الإيمان .. لكونه تطهيرا للمؤمنين من أوضار الكفر، وحلية تزينهم بآثاره الجميلة، ومتداخلا في قلوبهم كما أن شأن الصبغ بالنسبة إلى الثوب كذلك .. " (3).
المبحث السادس: سر التعبير بالجملة الاسمية أو الفعلية
لكل من الجملتين الاسمية والفعلية أغراضها البيانية ومميزاتها البلاغية، وليس المقام مقام استطراد في هذا إلا أن المصادر التي تعنى بهذا الموضوع كثيرة، وقد بينت أن الجملة الاسمية تفيد نوع ثبوت واستقرار، أما الجملة الفعلية فتفيد الحدوث والتجدد، وعلى كل فإن أبا السعود قد عرض لتوظيف هذه المعاني في تفسيره لكتاب الله عز وجل، فكثيرا ما كان يشير إلى إيثار الجملة الاسمية على الفعلية أو الفعلية على الاسمية، ويأتي لذلك بأجمل اللطائف والإشارات. ومثاله، في قول الله سبحانه: ”وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ“ (البقرة: 8 (، حيث يبين سر التعبير بالجملة الاسمية (وما هم بمؤمنين) مع أن المتبادر أن يقال: "ولم يؤمنوا" حتى يوافق ذلك قولهم:"آمنا". فيقول: "وإيثار الجملة الاسمية على الفعلية الموافقة لدعواهم المردودة للمبالغة في الرد بإفادة انتفاء الإيمان عنهم في جميع الأزمنة لا في الماضي فقط كما تفيده الفعلية" (1).
ومثل ذلك في قول الله تبارك وتعالى: ”وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ“ (البقرة: 14)، فالمنافقون – كما تصور الآية – حريصون على إخفاء طويتهم الفاسدة أمام المؤمنين، ولذلك قالوا: (آمنا)، هكذا على الجملة الفعلية، أما أمام شياطينهم من مردة الكفر والنفاق فإنهم قالوا: (إنا معكم إنما نحن مستهزئون)، حيث عبروا عن إخلاصهم لهم بالجملة الاسمية لا بالفعلية كما كان يتبادر؛ جرياً للكلام على نسق واحد.
أبو السعود رحمه الله يبين السر في ذلك ببيان مفصح، فيقول: "وإنما خاطبوهم بالجملة الاسمية المؤكدة، لأن مدعاهم عندهم تحقيق الثبات على ما كانوا عليه من الدين، والتأكيد للإنباء عن صدق رغبتهم، ووفور نشاطهم لا لإنكار الشياطين، بخلاف معاملتهم مع المؤمنين؛ فهم إنما يدعون عندهم إحداث الإيمان، لجزمهم بعدم رواج ادعاء الكمال فيه، أو الثبات عليه .. " (2). مثال آخر - والأمثلة كثيرة - في قول الله سبحانه: ”وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ“ (البقرة: 130 (، يقول أبو السعود مبينا سر التعبير بالجملة الاسمية في قوله (وإنه في الآخرة لمن الصالحين) ما نصه: "وإيثار الاسمية لما أن انتظامه في زمرة صالحي أهل الآخرة أمر مستمر في الدارين، لا أنه يحدث في الآخرة " (3).
المبحث السابع: الالتفات*
أسلوب بلاغي معروف عند أهل اللغة، وقع استعماله في كتاب الله كثير ا، لم يغفل أبو السعود التنبيه إليه، وإلى أسرار استعماله كأسلوب يعتبر من أساليب التفنن البلاغي، ينبئ عن قدرة المتكلم على إجادة التصرف في الكلام. ومن أمثلة هذا النوع ما نبه إليه أبو السعود عند قول الله تبارك وتعالى:”يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ“ (البقرة: 21)، تناولت الآيات السابقة لهذه الآية أنواع الناس وأصنافهم على سبيل الغيبة، ثم نجد النص القرآني انتقل من ذلك إلى الخطاب الواضح في الآية الكريمة. فما سر ذلك؟ يجيبنا أبو السعود على عادته في التنبيه إلى أجمل اللطائف بقوله:
¥