"أقبل عليهم بالخطاب على نهج الالتفات هزا لهم إلى الإصغاء، وتوجيها لقلوبهم نحو التلقي، وجبرا لما في العبادة من الكلفة بلذة الخطاب" (1). ومن الأمثلة على هذا النوع من أنواع البلاغة المعجزة التي نبه عليها خطيب المفسرين "أبو السعود، ما جاء في قول الحق سبحانه: ” وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ “ (البقرة: 83).
ففي بداية الآية كان الكلام عن ميثاق الأسلاف من بني إسرائيل، ثم لما ذكر التولي توجه به على سبيل الخطاب إلى الحاضرين منهم، يقول أبو السعود: "التفات إلى خطاب بني إسرائيل جميعا، بتغليب أخلافهم على أسلافهم، لجريان ذكر كلهم حينئذ على نهج الغيبة، فإن الخطابات السابقة لأسلافهم محكية داخلة في حيز القول المقدر قبل (لا تعبدون)، كأنهم استحضروا عند ذكر جناياتهم، فنعيت هي عليهم، وإن جعل خطابا لليهود المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا تعميم للخطاب بتنزيل الأسلاف منزلة الأخلاف، كما أنه تعميم للتولي فينزل منزلة الأسلاف للتشديد في التوبيخ .. " (2).
وهكذا أكون كشفت النقاب عن بعض الأسرار البلاغية في القرآن الكريم من خلال الالتفات، كما جلّاها أبو السعود في تفسيره.
المبحث الثامن: سر اختيار فواصل الآي
لا تجد في فواصل القرآن مجرد توافق ألفاظ وأوزان فقط، إنما ترى أن لها ارتباطا وثيقاً بالمعنى (1)، ارتباطا يجعل من الآية بكليتها باقة متناسقة الألوان، تربو على الطبيعة البشرية في التعبير والتنسيق. وكلما احتاج المقام في تفسير الآية إلى بيان وجه تعلق الفاصلة بصدر الآية؛ وجدت أبا السعود يتصدى لهذه المهمة بفكره الثاقب، وملكته المميزة.
فعند مروره بقول الله عز وجل: ”يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ () وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ“ (البقرة: 40 – 41)، لم يفته أن ينبه إلى سر ختم الأولى بقوله: (وإياي فارهبون)، بينما ختمت الثانية بقوله: (وإياي فاتقون). يقول أبو السعود: "ولما كانت الآية السابقة – أي الأولى – مشتملة على ما هو كالمبادئ لما في الآية الثانية، فصلت بالرهبة التي هي من مقدمات التقوى، أو لأن الخطاب بها لما عم العالم والمقلد، أمر فيها بالرهبة المتناولة للفريقين، وأما الخطاب في الثانية، فحيث خص بالعلماء أمر فيها بالتقوى الذي هو المنتهى .. " (2).
وكذلك في قول الله سبحانه: ”أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ“ (البقرة: 75 (، عند تفسيره لهذه الآية يبين الملحظ في اختيار هذه الفاصلة، إذ إنها "مؤذنة بإن تحريفهم ذاك لم يكن بناء على نسيان ما عقلوه، أو على الخطأ في بعض مقدماته، بل كان ذلك حال كونهم عالمين مستحضرين له، أو وهم يعلمون أنهم كاذبون ومفترون" (3). وأمثلة هذا النوع كثيرة، بل لعل القارئ لا يحتاج إلى شيء منها خطر بباله إلا وجد منه في هذا التفسير العظيم ما يروي به ظمأه، ويهدئ به قلبه، وتقر به عينه.
الخاتمة والنتائج ..
بعد هذه الجولة في رحاب تفسير أبي السعود لسورة البقرة أستطيع أن أقول:
* إن تفسير أبي السعود تفسير عظيم مشحون بألوان النكات البيانية، والتطبيقات البلاغية على آي التنزيل، مما يجعل هذا الحشد الضخم منها يصبغ التفسير بلون مميز يعرف به أكثر مما يعرف بغيره.
*إن أبا السعود رحمه الله تعالى كان مولعاً بالجانب البلاغي للقرآن الكريم، متفرداً في فهمه له، حظاه الله سبحانه بعمق في النظرة البيانية البلاغية في القرآن، مما يجعله مقدما على غيره من المبرزين في هذا الباب.
*إن الباحث عن لطائف الإعجاز البلاغي؛ يجد منه في هذا التفسير ما يشبع النهم، ويكسب الدارس له ملكة في التفسير البياني مميزة.
هذا ما أمكنني الله من كتابته وتسطيره، فما وجد فيه من نقص وتقصير فمن نفسي ومن الشيطان، وما كان فيه من خير وإحسان، فمن الحنان المنان، فله الحمد أولا وآخرا، وهو الرحيم الودود.وصلى الله على النبي المصطفى وعلى آله وصحبه والصالحين.
فهرس المصادر والمراجع
1 - إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم، أبو السعود محمد بن محمد العمادي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1999.
2 - البلاغة فنونها وأفنانها، د فضل حسن عباس، دار الفرقان، عمان، الطبعة الرابعة 1997.
3 - التحرير والتنوير، محمد الطاهر بن عاشور، دار سحنون، تونس، ط بدون.
4 - التسهيل لعلوم التنزيل، أبو القاسم محمد بن أحمد بن جزي الكلبي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1995.
5 - دلائل الإعجاز، عبد القاهر الجرجاني، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الثانية، 1998.
6 - معاني النحو، د فاضل السامرائي، دار الفكر، الطبعة الأولى، 2000.
7 - المعجزة الخالدة، د حسن ضياء الدين عتر، دار ابن حزم، الطبعة الثانية 1989.
8 - مفتاح العلوم، أبو يعقوب يوسف بن محمد السكاكي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 2000.
9 - الموسوعة القرآنية، بحث "الالتفات"، د عبد العظيم المطعني، المجلس الأعلى للشؤون العلمية، 2003.