وهذه المسالة لها تعلق بمسألة قد اختلف فيها أهل اللغة، وهي: مسألة التناوب بين حروف الجر، فقد ذهب قوم إلى جواز التناوب بينها، وأن هذه الحروف قد يقع بعضها موقع بعضها الآخر بلا علة في البلاغة تقتضيه. وذهب آخرون إلى نفي ذلك، وتوجيه ما قد يشكل منها مما احتج به الأولون توجيها بلاغياً له علاقة وثيقة بالمعنى. "والحق أن الأصل في حروف الجر أن لا ينوب بعضها عن بعض، بل الأصل أن لكل حرف معناه واستعماله" (2).
والدارس لتفسير أبي السعود لا يتردد في نسبة هذا القول إليه، لما يظهر من توجيهه لاستعمال هذه الحروف في غير ما هو الأصل. من ذلك ما ذكره عند تفسير قوله سبحانه: ”ُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ“ (البقرة: 5)، حيث بين سر التعبير بـ "على"، حرف الاستعلاء في هذا الموطن، فقال: "وإيراد كلمة الاستعلاء بناء على تمثيل حالهم في حال ملابستهم بالهدى بحال من يعتلي الشيء ويستولي عليه ويتصرف فيه كيفما يريد، أو على استعارتها لتمسكهم بالهدى استعارة تبعية متفرعة عن تشبيه باعتلاء الراكب واستوائه على مركوبه، أو جعلها قرينة للاستعارة بالكناية، بين الهدى والمركوب، للإيذان بقوة تمكنهم منه، وكمال رسوخهم فيه" (3).
بعد النظر فيما قاله أبو السعود في تعليل استعمال هذا الحرف في هذا المكان، لا نعدو الصواب إذا قررنا أن أي حرف آخر استعمل في هذا المكان لا يؤدي الغرض الذي أداه حرف الاستعلاء.
المطلب الثالث: سر اختيار الكلمة القرآنية
امتازت العربية بوفرة كلماتها في المعنى الواحد، إلا أن المحققين من أهل التفسير واللغة قرروا أن بين الألفاظ المتشابهة نوع فرق –وإن دق-. والنص القرآني– كما ذكر- معجز من جهة اختياره اللفظ الأليق بالمقام على وجه لم يعهده البشر. والشواهد التطبيقية على هذا المعنى وفيرة، منها ما قاله أبو السعود رحمه الله في تفسيره لقول الله تبارك وتعالى: ”أَوْ كَصَيِّبٍ مِنْ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنْ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ“ (البقرة:19 (، مبينا سر إيثار لفظ "الجعل" على "الإدخال" مع أنه المتبادر، وإيثار لفظ "الأصابع" على "الأنامل" مع أن المعتاد أن الأنامل هي التي تجعل في الآذان لا الأصابع بكليتها، يقول: "وإيثار الجعل المنبئ عن دوام الملابسة واستمرار الاستقرار على الإدخال المفيد مجرد الانتقال من الخارج إلى الداخل؛ للمبالغة في بيان سد المسامع باعتبار الزمان، كما أن إيراد الأصابع بدل الأنامل للإشباع في بيان سدها باعتبار الذات، كأنهم سدوها بجملتها لا بأناملها فحسب كما هو المعتاد، ويجوز أن يكون هذا إيماءً إلى كمال حيرتهم، وفرط دهشتهم، وبلوغهم إلى حيث لا يهتدون إلى استعمال الجوارح على النهج المعتاد" (1).
وهذا الكلام في الغاية من التصوير البليغ، الذي يضيف إلى المعنى الذي وصفت فيه حال المنافقين صورة لا يخفى ما فيها من التهكم بحالهم، تدعو إلى العجب. ومن الأمثلة –أيضا- ما ذكره في تفسير قول الله سبحانه: ”إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ“ (البقرة: 26)، يعقب أبو السعود على سر التعبير بعنوان الربوبية في قوله (من ربهم)، فيقول:
"والتعرض إلى ضمير الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم لتشريفهم، وللإيذان بأن ضرب المثل تربية لهم وإرشاد إلى ما يوصلهم إلى كمالهم اللائق بهم .. " (1). ولو أدرنا كلام العرب على إبدال هذه الكلمة بغيرها لما وجدنا ما يؤدي الغرض، أو يتوصل به إلى المعنى الدقيق الذي حملته هذه الكلمة. وفي قول الله سبحانه: ”وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ“ (البقرة: 76 (، يلحظ أبو السعود التعبير بـ"الفتح"، فيقول:
¥