وانظر -غير مأمور- إلى كلامه عند قول الله سبحانه: ”قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ“ (البقرة: 97)، حيث يبين سر الإضمار في قوله: "نزله"، والعدول عن التصريح باسم جبريل؟ فيقول: "أضمر من غير ذكر إيذاناً بفخامة شأنه واستغنائه عن الذكر، لكمال شهرته ونباهته، لا سيما عند ذكر شئ من صفاته" (1)

فالإشارة إلى فيض شهرته وأنه صاحب وظيفة التنزيل، واعتبار ذلك من البدهيات، اقتضى إضماره وعدم التصريح باسمه.

المبحث الخامس: الدقة في اختيار الألفاظ

يلحظ البليغ أثناء تلاوته كتاب الله تعالى حسن انتقاء ألفاظه ودقة اختيارها، بما هو خارج عن القدرة البشرية على ذلك، فهي ألفاظ تختال جمالاً وتألقاً، وتنساب عذبة في الفم، خفيفة على اللسان، تستلذ بها الأسماع، وتستطيبها الأنفس. ولعل من أسس البلاغة وأركانها: وضع اللفظ المناسب في المكان الذي هو به أخص، مع مراعاة التناسب مع جو السياق العام. وقد جاء في تفسير أبي السعود من هذا الباب مادة غزيرة، وللترتيب والتبويب وجدت من المناسب أن أقسم المبحث إلى مطالب قصيرة، يمثل كل مطلب منها مجموعة من الأمثلة على ما أورده فيها، إلا أنه يجدر بي أن أشير إلى أن التقسيم لم يقم على الحصر، وإنما هو ضرب من التمثيل.

المطلب الأول: سر اختيار صيغة بنائية للكلمة دون صيغة أخرى

بين أبو السعود فيما بينه من أسرار في التعبير القرآني أسراراً بلاغية تختص باختيار صيغة بنائية للكلمة دون غيرها. من ذلك: قول الله تبارك وتعالى: ”وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ“ (البقرة: 4 (، يبين لنا أبو السعود سبب التعبير بالماضي في "أنزل" الأولى، مع أن الكتاب لم يتم نزوله إلى ساعة نزول الآية الكريمة، فيقول: "والتعبير عن إنزاله بالماضي مع كون بعضه مترقبا حينئذ، لتغليب المحقق على المقدر، أو لتنزيل ما في شرف الوقوع -لتحققه- منزلة الواقع، كما في قوله تعالى: ”قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ“ (الأحقاف: 30 (، مع أن الجن ما كانوا سمعوا الكتاب جميعا، ولا كان الجميع إذ ذاك نازلاً .. " (1). مثال آخر من تفسيره لنفس الآية، حيث يأخذ في بيان السر في بناء الفعل "أنزل" لما لم يسم فاعله، فيقول:"وبناء الفعلين للمفعول للإيذان بتعين الفاعل، وأجري على سنن الكبرياء" (2)

وكأنه يقول: إن منزل هذا الكتاب لا يحتاج إلى تعيين، إذ إن الذي يحتاج إلى تعيين هو من قد يلتبس بغيره، لكن مثل هذا الكتاب في إحكامه وإعجازه لا يمكن أن ينزله إلا الله سبحانه. وهذا ما يسمى بسنن الكبرياء، أي الطريقة التي تقتضيها الكبرياء والعظمة في التعبير والكلام، فإن للكبراء سنة معينة يتكلمون على وفقها.

ولنقف مع أبي السعود عند قول الله سبحانه: ”يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ“ (البقرة: 9 (، نجده يبين سبب إيثار التعبير بالمفاعلة في قوله: "يخادعون"، فيقول: "وإيثار صيغة المفاعلة لإفادة المبالغة في الكيفية، فإن الفعل متى غولب فيه بولغ فيه قطعاً، أو في الكمية، كما في الممارسة والمزاولة، فإنهم كانوا مداومين على الخدع" (1). وحاصله أن التعبير عن مخادعة المنافقين بهذه الصيغة البنائية، لعله يشير إلى أمرين يخدمان المقام:

الأول: أن صيغة المفاعلة في لغة العرب تفيد إجادة كيفية الفعل المصاغ منه، والثاني: أنها تفيد دوامه ومزاولته، فالمنافقون –على هذا- هم أساتذة كبراء في النفاق والمخادعة.

المطلب الثاني: سر التعبير ببعض حروف المعاني دون بعضها الآخر

حروف المعاني حروف تحمل معنى يظهر في غيرها، لها دور في إعراب ما بعدها، وما يعنينا هنا، سر التعبير ببعض هذه الحروف دون بعضها الآخر في مواضع قد يتبادر إلى الذهن أن الأصل اختيار الآخر.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015