"وتعريف المفلحين للدلالة على أن المتقين هم الناس الذين بلغك أنهم المفلحون في الآخرة، أو إشارة إلى ما يعرفه كل أحد من حقيقة المفلحين وخصائصهم" (1). وفي قول الله سبحانه: ”مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ“ (البقرة: 17. (

يتكلم عن اشتقاق كلمة النار، ومعنى استيقادها ثم يبين سبب تنكيرها، ويقرر أن التنكير للتفخيم (2)، وهذا بالطبع معنى يناسب السياق، إذ المقصود بالنار التي استوقدها المنافقون ما أظهروه من إيمان على قول، أو ما أضاء لهم في بعض اللحظات من إشراقات إيمانية على قول آخر (3)، وعلى أيهما فإن المقصود من تفخيم النار بتنكير لفظها، هو الإشارة إلى أنها نار ضخمة، عظيمة القدر، كانت كفيلة بأن تضئ لهم طريقهم، وتنقذهم من ظلمات الضلال؛ إلا أنها ما لبثت أن انطفأت، فانكفئوا خاسرين.

وعندما فسر قوله سبحانه: ”وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنْ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ“ (البقرة: 96 (، أخذ أبو السعود في الكشف عن السر المترتب على تنكير لفظ "حياة" الوارد في الآية الكريمة، فقال: "والتنكير في قوله تعالى: (على حياة) للإيذان بأن مرادهم نوع خاص منها؛ وهي الحياة المتطاولة .. " (4).

وعبارة أبي السعود السالفة هي ذاتها عبارة الزمخشري في كشافه، أما ابن عاشور فقد قال في سر التنكير في لفظ "حياة" ما نصه: "ونكر الحياة قصدا للتنويع، أي كيفما كانت تلك الحياة .. " (1).

ولا تعارض في ما ذكروه، فكون اليهود –الذين تصفهم الآية- حريصون على حياة طويلة يقتضي كون تلك الحياة التي لا يهم فيها إلا أنها طويلة؛ حياة رخيصة ذليلة.

هذا، وفي ما ذكر من الأمثلة ما يصور اهتمام أبي السعود البالغ بإظهار إعجاز الأسلوب القرآني، مبينا أن اللفظ القرآني متى جاء معرفاً أو منكراً كل قد جاء بليغاً معجزاً في موضعه.

المبحث الرابع: الإظهار والإضمار

أكثر أبو السعود من التنبيه إلى هذا الوجه من وجوه الإعجاز البلاغي، ولعل تنبيهه على الإظهار والإضمار من أكثر ما يجده القارئ من النكات. أذكر من ذلك: في تفسيره لقول الله سبحانه: ”قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ“ (البقرة: 33)، يقول مبيناً سبب إظهار كلمة "بأسمائهم" الثانية، إذ الأصل أن يقال: أنبئهم بأسمائهم، فلما أنبأهم بها. لكننا نرى أن النص عدل عن الإضمار، وهو التعبير بالضمير إلى التصريح بالكلمة، وهو مخالف للأصل من تركيب الكلام، فما السر في ذلك؟ يقول أبو السعود:

"وإظهار الأسماء في موقع الإضمار لإظهار كمال العناية بشأنها، والإيذان بأنه عليه السلام أنبأهم بها على وجه التفصيل دون الإجمال، والمعنى: فأنبأهم بأسمائهم مفصلة، وبين لهم أحوال كل منها وخواصه وأحكامه المتعلقة بالمعاش والمعاد، فعلموا ذلك لما رأوا أنه عليه السلام لم يتلعثم في شئ من التفاصيل التي ذكرها .. " (2).

وكذا عند تفسيره لقول الله تبارك وتعالى: ”وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ?عَلَى الْكَافِرِينَ“ (البقرة: 89)، يبين سبب إظهار لفظ "الكافرين"، مع أن الأصل إضماره بأن يقال: فلعنة الله عليهم. فلماذا عدل عن ذلك إلى ما ذكر من الإظهار؟ يقول:

"ووضع المظهر موضع المضمر للإيذان بأن حلول اللعنة بسبب كفرهم" (1)،

ومقصوده:

أن الإظهار هنا قام مقام التعليل لحلول اللعنة بهم، ولبيان أن ما التصق بهم منها إنما هو بكفرهم. ومثل هذا ذكره في مواضع عديدة في السورة، من مثل قوله: ”وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ“ (البقرة: 95).

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015