والثاني: البروز إلى العلن، والأولى متقدمة زماناً على الثانية، فقدمت في النص.

والحقيقة أن الإحاطة بكل ما يتعلق بباب التقديم والتأخير – وإن كان في تفسير سورة البقرة فحسب إلا أن الأمثلة التطبيقية غزيرة، وفي المذكور كفاية تمثل ما أولاه هذا المفسر العظيم في كتابه من عناية بهذا الباب، تدلك على مقدار عمق فهمه، وغزارة فكره وعلمه.

المبحث الثاني: الفصل والوصل

احتل هذا الموضوع مكانة رفيعة بين المباحث البلاغية، وكان له شأن عند الضالعين من أهل اللغة، ولكونه دقيق المسلك، لطيف المأخذ؛ جعله بعضهم حداً للبلاغة وقصرها عليه، حينما سئل: ما البلاغة؟ فقال معرفة الفصل والوصل. (1) هذا وقد ذكر السكاكي حينما تعرض لهذا الموضوع في كتابه "مفتاح العلوم" كلاماً يفصح عن أهمية هذا الفن من فنون البلاغة، إذ يقول: ”وإنها لمحك البلاغة، ومنتقد البصيرة، ومضمار النظار، ومتفاضل الأنظار، ومعيار قدر الفهم، ومسبار غور الخاطر، ومنجم صوابه وخطائه، ومعجم جلائه وصدائه، وهي التي إذا طبقت فيها المفصل شهدوا لك من البلاغة بالقدح المعلى، وأن لك في إبداع وشيها اليد الطولى، وهذا فصل له احتياج إلى تقرير وافٍ، وتحرير شافٍ .. “ (2).

والتنبيه إلى لطائف الفصل والوصل، ومعاقد البلاغة فيهما؛ امتلأ به تفسير أبي السعود، وقد ورد منه في تفسيره سورة البقرة شئ كثير. من ذلك، ما ذكره في تفسير قوله تعالى: ”الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ () وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ“ (البقرة: 3 – 4)، يتكلم عن العطف الذي يصل الجملتين في الآيتين الكريمتين، إذ إن الأصل أن العطف لا يقتضي التغاير، فهل الأمر كذلك في هذا النص؟

يجيب أبو السعود مبينا السر في وجود حرف العطف بقوله: "ويجوز أن يجعل كلا الموصولين عبارة عن الكل مندرجاً تحت المتقين، ولا يكون توسيط العاطف بينهما لاختلاف الذوات؛ بل لاختلاف الصفات .. للإيذان بأن كل واحد من الإيمان بما أشير إليه من الأمور الغائبة، والإيمان بما يشهد بثبوتها من الكتب السماوية نعت جليل على حياله له شأن خطير، مستتبع لأحكام جمة، حقيق بأن يفرد له موصوف مستقل، ولا يجعل أحدهما تتمة للآخر" (1). ثم إذا انتهى من تقرير هذا؛ استطرد إلى بيان اللطائف والفوائد في اقتران كل من الصفات في سياق واحد مع أخواتها، فقال: "وقد شفع الأول – وهو الإيمان بالغيب - بأداء الصلاة والصدقة اللتين هما من جملة الشرائع المندرجة تحت تلك الأمور المؤمن بها تكملة له، فإن كمال العلم بالعمل. وقرن الثاني – وهو الإيمان بالكتب - بالإيقان بالآخرة مع كونه منطوياً تحت الأول تنبيهاً على كمال صحته، وتعريضاً بما في اعتقاد أهل الكتابين من الخلل" (2).

على هذه الطريقة الدقيقة من التحليل سار أبو السعود في استكناه أسرار الإعجاز القرآني من خلال قضية "الفصل والوصل".

المبحث الثالث: التعريف والتنكير

التعريف والتنكير من الظواهر السياقية التي تقتضيها أحوال المخاطبين، ويقصدها المتكلم تبعا لمعنى أراده في نفسه اقتضى أيّاً من التعريف أو التنكير، ولكل منهما أغراض بلاغية متعددة، وإن مجئ لفظ ما من ألفاظ القرآن معرفاً تارة، ومنكّراً تارة أخرى لم يكن قط مصادفة عبثية –تعالى الله وكلامه عن ذلك-، إنما جئ به مرة على حالة، وأخرى على أخرى لنكتة ما متعلقة بالسياق الذي ورد فيه هذا اللفظ أو ذاك، ولا شك أن هذا النوع من المباحث البلاغية ملحوظ في تفسير أبي السعود، ومنه ما جاء في تفسير قول الله تعالى: ”أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ“ (البقرة: 5)، حيث طفق القاضي أبو السعود يكشف عن السر الذي لأجله نكرت كلمة "هدى" في النص المذكور، فيقول: "وما فيه من الإبهام المفهوم من التنكير لكمال تفخيمه، كأنه قيل: على أيّ هدىً لا يبلغ كنهه، ولا يقادر قدره" (1).

هذا مثال في أسرار التنكير، ولا نتعدى تفسير ذات الآية حتى يتحفنا أبو السعود بمثال يبين فيه ما في التعريف من فوائد ومعان بلاغية خاصة به، ففي فاصلة الآية جاء لفظ "المفلحون" معرفا كما هو واضح، فما السر في ذلك؟ يقول رحمه الله:

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015