ولأهمية هذا الباب، يقول شيخ البلاغة عبد القاهر رحمه الله تعالى: "هو باب كثير الفوائد، جم المحاسن، واسع التصرف، بعيد الغاية، لا يزال يفتَرّ-أي يكشف- لك عن بديعه، ويفضي بك إلى لطيفه .. " (1). ولما كان التقديم والتأخير بهذه الأهمية، وجدنا أبا السعود رحمه الله يعنى به عناية خاصة، بحيث لا يكاد القارئ يتصفح ورقتين متتاليتين تخلوان من لطيفة في التقديم والتأخير، تهتز لها النفوس طربا.
فنجده عند تفسيره لقول الله تعالى:” ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ“ (البقرة: 2 (يعلق على سبب تأخير ذكر الجار والمجرور "فيه" على أن حقهما التقدم على متعلقهما،خلافاً لذلك في قوله سبحانه:” وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ“ (البقرة: 23). فيقول مبيناً سبب اختلاف النظم في الآيتين: "إلا أنه خولف في الأسلوب – أي في الآية الثانية – حيث فرض كونهم في الريب لا كون الريب فيه لزيادة تنزيه ساحة التنزيل عنه، مع نوع إشعار بأن ذلك من جهتهم لا من جهته العلية، ولم يقصد هنا – أي في الآية الأولى – ذلك الإشعار، كما لم يقصد الإشعار بثبوت الريب في سائر الكتب ليقتضي تقدير الظرف، كما في قوله: ” وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ“ (الصافات: 47) " (1).
وكذلك يتكلم في أسرار تقديم بعض مذكورات النص وتأخير أخرى، وأمثلة هذا وفيرة، منها ما ذكره في تفسير قول الحق سبحانه: ”إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ“ ” (البقرة: 26).
حيث يعلق على تقديم ذكر الإضلال على الهداية، مع كون الأخيرة أشرف حالاً وأرقى رتبةً، فيقول:
"وقدم الإضلال على الهداية مع تقدم حال المهتدين على حال الضالين فيما قبله؛ ليكون أول ما يقرع أسماعهم من الجواب أمرا فظيعا يسوؤهم، ويفتّ في أعضادهم" (1)، إذ إن المقام مقام الكلام عن الكافرين: ”إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ “ (البقرة: 26).
ولما تكلم في تفسير قول الله: ” هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ“ (البقرة: 29)، نجده لم يغفل سر تقديم الأرض على السماء، بل علل ذلك بأن تأخير ذكر السماء على أنها أقوى دلالة على كمال القدرة الباهرة؛ إلا أن الأرض قد نيط بها من المنافع ما لم ينط بالسماء بالنسبة إلى بني البشر، وقد تعلقت بها مصالحهم بأظهر مما تعلقت بأختها، فكان من الأنسب و الأليق أن يقدم ذكر الأرض على السماء. (2)
ومثله – أيضا – ما ذكره في تفسير قوله سبحانه: ” أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ“ (البقرة: 77)، إذ نراه يقف مع تقديم الإسرار على الإعلان فيعلله، بقوله: "وإنما قدم الإسرار على الإعلان للإيذان بافتضاحهم، ووقوع ما يحذرونه من أول الأمر، والمبالغة في بيان علمه المحيط لجميع المعلومات، كأن علمه بما يسرونه أقدم منه بما يعلنونه؛ مع كونهما في الحقيقة على السوية، فإن علمه تعالى بمعلوماته ليس بطريق حصول صورها، بل وجود كل شيءشئ في نفسه علم لله تعالى .. " (3)، ثم بعد هذا الجواب الدقيق نرى أبا السعود يردف بجواب آخر، ينبئ عن شدة دقة ملاحظته، وعمق نظراته، فيقول: "ويجوز أن يكون ذلك باعتبار أن مرتبة السر متقدمة على مرتبة العلن " (4)، إذ ما من شيءشئ إلا ويمر بحالين: الأول: الإضمار في النفس وانعقاد القلب عليه، وهذا يتعلق به الإسرار غالباً،
¥