ـ[رأفت المصري]ــــــــ[10 Feb 2009, 02:59 م]ـ
كنت قد كتبت هذا البحث على عجالة قبل حين من الزمان، ورأيت أن أضعه بين أيدي الإخوة الأكارم في هذا الملتقى المبارك - وقد نشرت الدراسة في مجلة كلية المعلمين -بيشة - العدد السابع1428هـ."عذرا فإني لم أستطع إظهار الهوامش أثناء نقل الموضوع إلى الملتقى"
الإعجاز البلاغي عند أبي السعود في تفسيره
"دراسة تطبيقية على سورة البقرة"
رأفت محمد رائف المصري*
تقديم:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فإن الوجوه التي أعجز بها القرآن من تحداهم بالإتيان بمثله من إنسٍ وجنٍّ كثيرة ومتعددة، ولا أعدو الصواب إذا قلت: إن ما بذل ويبذل في هذا الباب -على كثرته-لا يعدو شاطئ البحر إلى لجته، إذ إن بحر القرآن الكريم ما زال زاخراً بلآلئ الإعجاز الزاهية، وما يزال العلماء على مر العصور يقفون أمام هذه المعجزة الربانية، واللطيفة الرحمانية، موقف التلميذ النهم، يغترف من معلمه العظيم ما يشرح الصدور، ويبدد الظلمات بالنور .. ويقطف من بساتين علمه من كل ما يسلب اللب جماله، ويذهب بالعقول بهاؤه.
ثم إن المفسرين قد تنوعت مشاربهم العلمية، وتفاوتت قدراتهم الذهنية؛ ومن ثم فقد تنوعت وجهاتهم في تفسير النص القرآني ما بين مائلٍ إلى استنباط الفقه، وآخرَ متكلمٍ حاذقٍ، وثالثٍ أديبٍ لغويٍّ رائق، ورابعٍ أثري حافظ.
أما القاضي أبو السعود رحمه الله تعالى، فقد تناول القرآن تناولاً مميزاً، وعرف تفسيره بين التفاسير واشتهر، ومع أن هذا التفسير ملئ بالكنوز الثمينة، والجواهر النفيسة، إلا أنها بعيدة الغور، محجوبة بأستار من الفذلكات اللغوية، جعلت منه تفسيراً مقصوراً على خاصة الخاصة.
وقد عني أبو السعود في تفسيره الموسوم بإرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم بالجانب البلاغي للقرآن الكريم، وجلّاه بما يفرح القارئ الفطن.
والمختصون بهذا العلم الشريف يجدون أن هذا المرجع من أعمق المراجع في إعجاز القرآن البياني نظراً، ومن أدقها فيه ملحظاً.
ووقوعاً على الفائدة الأصيلة، رأيت أن أتخير أمثلة تطبيقية على وجوه الإعجاز البياني للقرآن من خلال النظر في تفسير أبي السعود لسورة البقرة، أبين فيها طرفا من اهتمام صاحب هذا السفر وعنايته بهذا الجانب الأخطر من جوانب الإعجاز، وإنما كان الاختيار لسورة البقرة كحقلٍ لهذا الاستقراء لما علم من عادة المفسرين من استفراغهم جهدهم الأعظم في التفسير في البدايات.
هذا وقد أتبعت هذه المقدمة بترجمة مختصرة لأبي السعود، أتبعتها بالمادة العلمية لهذه الدراسة مقسمةً إلى ثمانية مباحث على حسب الأبواب البلاغية، لم أعمد في تقسيمها ولا في التمثيل لها إلى الحصر، وإنما هو الاختيار فحسب.
والله أسأل أن يجزي علماءنا عنا خير الجزاء، وأن ينفعنا بعلمهم، وأن يفتح علينا من أسرار كتابه الكريم. أنه أكرم مسؤول.
ترجمة أبي السعود*
هو القاضي أبو السعود محمد بن محمد بن مصطفى العمادي الحنفي، ولد سنة ثمان وتسعين وثمانمائة بقرية قريبة من قسطنطينية، طلب العلم وقُلّد القضاء وتولّى الفتيا، وحصل له من المجد والإقبال شيء كثير، وعاقه الدرس والفتوى عن التفرغ للتصنيف، سوى أنه اختلس فرصا وصرفها إلى التصنيف في التفسير، فأتى بهذا التفسير العظيم، وسماه: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم، وحصل لهذا الكتاب من الشهرة بين المختصين بعلم التفسير ما لم يحصل لأكثر التفاسير، فكان بحق من أمهات الكتب وعيونها، ولقب بـ "خطيب المفسرين".
وله مصنفات عديدة ذكرها من ترجموا له، جلها في الفقه على مذهب الإمام أبي حنيفة.
توفي في قسطنطينية سنة ثنتان وثمانين وتسعمائة، ودفن بجوار أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه.
المبحث الأول: التقديم والتأخير
التقديم والتأخير من مظاهر النظم بل هو لُبّه، إذ قد عُرّف النظم بأنه: "ترتيب الألفاظ في النطق تبعاً لترتيب المعاني في النفس" (1)، ومن هنا فقد يكون الكلام واحداً في مادته وألفاظه، لكن ترتيبها هو الذي يختلف إذا اختلف المعنى المراد في نفس المتكلم.
¥