فالظاهر أن مكيا – بمقارنة مع الطبري – قد جمع في هذا القول بين من يفسر المرسلات بأنها «الريح» هكذا بالمفرد – كما في الدر المنثور (14) – أيضا – منسوبا إلى من ذكرهم مكي، وبين من يفسر قوله:

«عرفا»: أنه «يتبع بعضها بعضا» وهذا قول صالح بن بريدة.

فأما الطبري فقد جمع المعنى الكلي لهذه الأقوال، فذكره أولا ثم أتبعه بنص الأقوال مسندة إلى أصحابها، وأما المكي، فغنه اكتفى بذكر المعنى الكلي عند الطبري ونسبته هو نفسه إلى أولئك، ومما يدل عليه أن «الرياح» مذكورة بالجمع أيضا في كلام الطبري.

• وقد يذكر كلام الطبري لكن مع التصرف فيه إما بالاختصار وإما ببعض الإضافات التي قد تكون في بعض الأحيان مقدار كلمة أو كلمتين، إلا أن لها دلالة خاصة فمن ذلك ما قال الطبري في قوله تعالى: "إن الله لا يهدي القوم الفاسقين" (المنافقون:6) «إن الله لا يوفق للإيمان القوم الكاذبين عليه، الكافرين به، الخارجين عن طاعته».

ووقال مكي: «أي لا يوفق القوم الذين خرجوا عن طاعته» (15) فهذا اختصار جيد، لأنه يحمل من المعاني أكثر مما يحمله كلام الطبري، وذلك أنه – من جهة – ترك التوفيق على عمومه ولم يقيده بالهداية إلى الإيمان، ومن جهة أخرى ذكر الخروج عن الطاعة وحده غير مقترن بالكفر، وتركه على عمومه ايضا بحيث يحتمل دخول غير الكافرين في الخطاب، وذلك لاحتمال وقوع المسلم في الفسق بالخروج عن طاعة الله عز وجل، فيحرم بذلك من التوفيق.

قال الراغب: «الفسق أعم من الكفر، والفسق يقع بالقليل من الذنوب وبالكثير، لكن تعورف فيما كان كثيرا، وأكثر ما يقال الفاسق لمن التزم حكم الشرع وأقر به ثم أخل بجميع أحكامه أو ببعضه، وغذا قيل للكافر الأصلي فاسق فلأنه أخل بحكم ما ألزمه العقل واقتضته الفطرة»، (16)

ومن هذا الباب أيضا ما قال الطبري في قوله تعالى:"ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر" ح (الطلاق:2): يقول تعالى جل ذكره: هذا الذي أمرتكم به، وعرفتم من أمر الطلاق، والواجب لبعضكم على بعض عند الفراق والإمساك، عظة منا لكم نعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فيصدق به».

وقال مكي: «أي هذا الذي عرفتكم به من أمر الطلاق عظة لمن يؤمن بالله واليوم الآخر فيتبعه ويعمل به». (17)

فقوله: «يتبعه ويعمل به». إضافة جيدة ليست عند الطبري، وهي تفسير لنوع الإيمان المراد في الآية، وهو الإيمان الدافع على العمل، وفيه إشارة إلى أنه لا يمكن أن يتحقق اتعاظ بغير عمل كما لا يمكن أن يحدث اتعاظ بدون إيمان.

ومن هذا الباب أيضا ما قال مكي في قوله تعالى: "ووجوه يومئذ ناضرة" (القيامة:21) أي حسنة ناعمة جميلة من السرور والغبطة، هذا قول جميع أهل التفسير «.

فقد جمع مكي في هذا النص بين أقوال مما اعتبره الطبري مختلفا، حيث ميز بين ما دل منها على النعومة والجمال وما دل على السرور والغبطة. (18)

وقد أجاد مكي في الجمع، نظرا لسعة لفظ النضارة والنضرة، واحتماله لكل تلك المعاني، وأيضا فإن عبارة مكي تدل على نوع التلازم بين تلك الصفات.

وهذا الكلام في وصف كيفية توظيف مكي لتفسير الطبري إنما هو خاص بالمواضع التي رجع فيها مكي فيه من غير أن يذكره أو يحيل عليه.

أما المواضع التي ذكر فيها الطبري تصريحا أو تلميحا، فيظهر أنه إنما يفعل ذلك لهدف خاص، كأن ذكر اختياره في موضع الخلاف فيفهم من ذلك ميله إلى تلك الاختيار، مع أن مكيا قد اكتفى في كثير من المواضع حكاية الخلاف ولم يلتفت إلى اختيارات الطبري على الرغم من وجودها وقوتها.

ومن الماذج في الميل إلى اختيار الطبري ما جاء في «الهداية» في معنى «الثجاج» المذكور في قوله تعالى: "وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا" (النبأ:14) قال: أكثرهم على أنه المنصب وهو اختيار الطبري «. (19)

وقد يذكره في موضع الرد كما جاء في تفسيره لقوله تعالى: "إنه على رجعه لقادر" (الطارق: 8) حيث ذهب الطبري إلى أن الهاء في «رجعه» للإنسان، قال مكي: «وهذا التأويل، فيه بعد في العربية، لأن العامل – على هذا التفسير – في «يوم» «رجعه» فهو داخل في صلته، وقد فرق بين الصلة والموصول بخبر «إن» وهو «لقادر»، وذلك لا يحسن». (20)

وهكذا تعرفنا على نماذج من التعامل المبدع مع المصادر ظهر فيه تفرده واجتهاده وهو ما يتأكد بما يلي:

ثانيا: في كيفية تعامل مكي مع أقوال السابقين:

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015